انتقل تمثيل الجسد الأنثوي في الروايات النسائية الخليجية التي صدرت في الألفية الثالثة من المستوى الوظيفي (المتمثّل في تجلية البعد الجسدي للشخصية الرئيسة: وصف الطول، ولون البشرة والشعر، وشكل العين وما إليه) إلى مستوى يبدو أكثر قدرة على تمثيل قضايا الجسد، أو إلى الجسد بمعناه الاجتماعي الذي يعبّر عن الوعي بالذات، وعن صورته في عرف الثقافة والمجتمع، وفي هذا السياق يكون الحديث عن الهوية الأنثوية في بعدها الثقافي، أو عن مفهوم الأنوثة الذي لا يرتبط بالصفات الجنسية للمرأة، بل بكيفية تمثّلها وإدراكها من منظور الثقافة (كما تعبّر خلود السباعي) .
لقد جاء التباهي بالجسد والرهان عليه في بعض هذه الروايات بضمير الغائب عبر مقاطع تقريرية في سياق تقديم الشخصية أو الإعلان عنها، وفي بعضها الآخر بضمير المتكلّم، ليكون التعبير عن الجسد في هذا المستوى أكثر اتساعاً وتشبّعاً بالمواقف النفسية؛ نظراً لتطابق أنا الراوي مع أنا الشخصية. وقد جاء هذا التطابق في ثلاث صور:
- الراوي المشارك (المرأة تروي، فتحتفي بجسدها وتراهن عليه)، وتتصل بهذه الأداة المشاهد الحوارية الداخلية (المرأة تتحدّث إلى نفسها).
- والمشاهد الحوارية الخارجية ذات الأسلوب الحرّ المباشر (المرأة تتوجه بالحديث عن نفسها إلى شخصية أو شخصيات متعدّدة).
- (وبدرجة أقلّ) مع الراوي الخارجي، في حال تحرّفه إلى الإخبار عن تباهي الشخصية الروائية بجسدها أو مراهنتها عليه.
وقد عبّر هذا النمط من التمثيل في عدد من الروايات عن اعتداد الأنثى بجسدها؛ إذ يبدو احتفاؤها بالجسد تغنياً بما تملكه من جمال (إمكانات/ قدرات)، وهو ليس احتفاءً عادياً في بعض الروايات، بل مادة رهان، تتغيا الشخصية الأنثوية من ورائه تحقيق غايات متعدّدة، أغلبها ذات مغزى مادي.
لذلك بدا الجسد في كثير من هذه الروايات - كما رأى عبدالله إبراهيم - «عاملاً محفِّزاً للأحداث، وموضوعاً للحبكة التي تجتذب إليها سائر عناصر البنية السردية، فتعيد توزيعها في مساحة السرد»، هذا بالإضافة إلى كونه أداة من أدوات نموّ الشخصية وتعقّدها.
ففي رواية «وسادة لحبك» للسعودية زينب حفني تحدثت فاطمة عن هذا المعطى (في الجزء الخاضع لروايتها)، أو جلّته من خلال:
- تأمّل الجسد وتفحّصه بدافع شخصي (جلستُ أمام مرآتي، تمعّنتُ) .
- استحضار موقف الآخر من الجسد (استعدتُ عبارات الإطراء، الجميع كان يردّد).
- البحث عن أثر الزمن في الجسد، والزمن يعدّ ركناً رئيساً في احتفاء المرأة أو تباهيها بجسدها الأنثوي، وذلك حين تبدو في أعين الآخرين أصغرَ مما ينبغي، كما في قولها: «بدوتُ بجانب ابنتي كأختها الكبرى» .
- الشعور بالرضا عن الحالة بسبب القيمة التي يحقّقها لها بعدها الجسدي «غمرني الارتياح، طافت ابتسامة رضا» .
لذلك أصبح الجسد مدخلاً للحدث الأبرز في هذه الرواية، ألا وهو تعرّفها على الشاب الشيعي جعفر؛ فقد رآها - في المرّة الأولى - متورّدةً كالشفق بعينين جذّابتين، وشعر بأنّ ثمة نداءً غامضاً ينبثق من جوانب جسدها، يحثّه على التغاضي عن الصفات التي تخلب لبّه في المرأة، وقد التقطت فاطمة عينَه وهي تقتحمها، فمدّت له طريق النظر إلى تفاصيل جسدها، وبادلته الابتسامة بابتسامة؛ لتكون فاتحة لاقترابه، معبرة بهذا التجاوب السريع عن تأصّل فكرة الرهان على الجسد في ذهنيتها:
«تنبّهت لوجوده بعد مرور أكثر من عشر دقائق على جلوسها، حاولت تجاهل تلك العينين الجريئتين المتسلطتين عليها، المتواريتين خلف النظارة. شيء ما مبهم شدها هي الأخرى نحوه، دفعها إلى استراق النظر إليه من تحت زجاج نظارتها الشمسية المحاطة بإطار برونزي ... سمعها تسأل النادل عن دورة المياه. أخذ يتبعها بنظراته، يتأمل انسيابية ظهرها، كان فستانها (الجرسيه) الملتصق بجسدها يفضح تفاصيله بيسر، مسربلاً إلى ما بعد ركبتيها، يصل منتهاه إلى منتصف ساقيها ... عند عودتها إلى مقعدها أخذ يسترق النظر إلى ثدييها الكرويين اللذين أخذا يتأرجحان مع مشيتها. من دون أن يدري وجد نفسه يبعث لها بابتسامة خفيفة. لم يصدق عينيه حين وجدها تبدله الابتسامة، سألها بإشارة من يده إن كان بإمكانه الانتقال إلى طاولتها، أومأت برأسها موافقة...» (ص37 - 39) .
يتجلّى الرهان على الجسد في هذا المقتطف من خلال اهتمام فاطمة بلباسها، وهو اهتمام متصل برؤيتها الخاصة إلى جسدها كما أسلفت؛ فقد ظهرت في مكان عام بفستان يعرّي جزءًا من جسدها، ويشفّ عن تفاصيل الجزء المستور منه، وسعت إلى الاستعراض بجسدها بعد أن التقطت عيني جعفر، وهو استعراض يحوّل الجسد إلى مشتهى، إذ انتقلت عينا جعفر من ملامح الوجه ولون البشرة وقت جلوسها إلى المناطق المشتهاه، وقد توّجت فاطمة هذا التباهي والرهان بابتسامتها له، وموافقتها على رغبته في الجلوس إليها.
وكما كان الجسد فاتحة لهذه العلاقة فقد أسهم في تأصيلها وتناميها أيضاً، من خلال العلاقة الجسدية التي وجد فيها الطرفان مسوّغاً للتقارب، وقد عبّرت الرواية بالاندماج الجسدي بينهما عن تقاربهما الفكري، في رؤيتهما للذات أولاً، ثم للمجتمع الذي ينتميان إليه، وأفضت هذه العلاقة بينهما إلى الزواج رغم الموانع الاجتماعية (فاطمة سنية وجعفر شيعي)، واتفقت رؤيتهما في هذا الإطار على أنّ الاختلاف المذهبي محفّزٌ على التكامل وليس محرّضاً على القطيعة أو الصدام، تماماً كما هو التكامل بين جسد الذكر وجسد الأنثى!
ولقد كان الجسدُ الورقة الوحيدة لفاطمة في هذه العلاقة، فإذا كان جعفر بالإضافة إلى بعده الجسدي المغري مثقفاً وقائداً لجميع المشاهد الحوارية الثقافية التي دارت بينهما، ومؤثّراً فيها أكثر منه متأثراً بها، فإنّ فاطمة لم تكن في سياق هذه العلاقة إلا جسداً ينمو تحت شجرة رجل؛ ولم تتسلّم زمام القيادة أو التأثير إلا في إطار العلاقة الجسدية، وكل خطوط العلاقة العاطفية بينهما كانت مشدودة بقوة إلى الجسد الذي أطالت النظر فيه، واحتفظت طويلاً بكلام الآخرين عنه!
ومثل هذا المستوى نجده في رواية «صابرة وأصيلة» للعمانية غالية آل سعيد؛ فقد فتحت صابرة عينيها على علاقة لم تخطّط لها مع شهم أبو طفلة (المعلّم الفلسطيني المقيم في عمان)، وكانت على وعي في بدايات تواصلها معه بأنه ينتمي إلى مجتمعات متمدّنة، يبدو فيها جسدُ المرأة عاملاً من أهمّ العواملِ الجاذبةِ للرجل؛ لذلك توسلت في لقائهما الأول بالجسد، فأطالت الاعتناء به وبتجميله؛ لتضمن تأصيل هذه العلاقة، ولتستطيع الاحتفاظ بهذا الرجل الذي أحبته؛ لذلك بذلت كل ما تستطيع للظهور بمظهر جذّاب أمام شهم.
وقد سلط الراوي انجذابَ شهم إلى جسدها؛ فقد كان «معجباً بالحناء على يدي صابرة، ورائحة جسدها الغريبة، والخجل الذي يبدو عليها، والارتباك الذي يسيطر على شخصيتها وهي بجانبه» (ص123)، وكان يتطلع إلى أن تتحرر أكثر وأكثر من القيود الثقافية التي تقيّد جسدها، فأخذ يؤكد لها حبه، ويطمئنها باستمرار هذا الحب، ويعدها بالزواج وبأن المستقبل سيكون لهما رغم الموانع الكثيرة التي تحيط بهما. وقد حفّز الجسدُ هذه العلاقة بين الطرفين، فانتقلت صابرة في اللقاء الثاني من التمنّع إلى العطاء حتى وصلت درجة الممنوع في لقائهما الثالث، فمنحته كلّ شيء انطلاقاً من حبها إياه، وثقتها بصدقه، ورهانها على جسدها في تأصيل هذه العلاقة.
وإذا كان رهان فاطمة على الجسد في رواية «وسادة لحبك» قد نجح في تأصيل علاقتها بجعفر فإنّ رهان صابرة في هذه الرواية لم يستطع تحقيق ذلك؛ فشهم لم يكن مسكوناً بالحبّ بقدر ما كانت غايته التعرف على تفاصيل الحياة في عمان من خلال التسلل إلى عالمه المغلق، فكانت علاقته بصابرة وسيلة مناسبة لتحقيق هذه الغاية؛ لذلك انتهت علاقته بها حين سافر إلى لبنان بعد أسبوع من لقائهما الثالث والأخير، وتركها تواجه الموتَ وحدها بعد أن حملت منه واكتشف شقيقها حمد هذا السرّ!
(يتبع)..................................................
خالد الرفاعي - الرياض