يحتفل المسيحيون كل عام بعيد ميلاد السيد المسيح فيقيمون مراسم البهجة والأفراح ويزينون شجرة الميلاد وتضاء بكل ما تنتجه المخيلة من سمات الفرح. وصارت البلدان تتسابق في صناعة شجرة عيد الميلاد في الساحات ويتفاخرون أيها الأكبر والأكثر إثارة. ويتم تبادل الهدايا بين الناس بحيث إن الشركات تستأجر من المواطنين سياراتهم ويقودونها بأنفسهم كي يساعدوا في إيصال صناديق الهدايا التي يتبادلها الناس مقابل أجور سخية.
والابتهاج هو انعكاس للمحبة التي نشرها السيد المسيح بين الناس وأرادها للبشرية سمة في حياتهم، لكن الناس لم يمتثلوا لمحبة السيد المسيح ودعوته للمحبة، فمارسوا ويمارسون كل أنواع الغدر والشرور فزادت نسبة الجريمة في العالم ووصل البشر لمرحلة أن يتفننوا بطرائق الانتقام والموت والإعلان عنها عبر وسائل ما يسمى بالتواصل الاجتماعي في الإنترنت.
في هذه المناسبة (مناسبة عيد الميلاد) تعرض كل القنوات الفضائية فيلماً عن السيد المسيح. يشاهده الناس وهم يعرفونه ويعرفون تفاصيله ومضامينه وقيمه الجمالية لأنهم يشاهدونه كل عام عندما يحل شهر ديسمبر منذ سنوات طويلة. وعادة تعرض القنوات الفيلم الأول الذي أنتج عن السيد المسيح، ذلك الفيلم الذي أقره الفاتيكان واعتبره انعكاساً وتصويراً موضوعياً وتبشيرياً عن شخصية السيد المسيح، فبعد أن أنتج 392 فيلماً عن السيد المسيح وبرؤى مختلفة فإن الفاتيكان لم يعترض على تلك الأفلام واحترم وجهة نظر منتجيها مع ملاحظات غير ودودة قدمت لمنتج فيلم «أنجيل متى» الذي أخرجه الإيطالي «بازوليني» وحاول أن يضفي على شخصية المسيح رؤية مادية ماركسية في الحقبة التي تبنى فيها بازوليني الفكر الشيوعي والماركسي اللينيني. فحاول أن يفسر الوجود والدين تفسيراً لم يدخل البهجة على الفاتيكان. لكن الفاتيكان لم يطلب منع الفيلم انطلاقاً من تسامح السيد المسيح!
هذا العام سوف لن تتساوى القنوات الفضائية في الغرب بعرض فيلم السيد المسيح بل إن إحدى القنوات المهمة، لم تعرض فيلم السيد المسيح عن الحب والتسامح وانتصاره للفقراء كي لا يمتص القيصر جهدهم وعرق جبينهم في المشهد المعروف حين خاطب السيد المسيح المزارعين عندما جاءهم للسوق مندوب القيصر لكي يستوفي منهم الضرائب، فإن السيد المسيح حين حضر السوق فإنه جمع الأموال من الفلاحين وأعطاها كلها لمندوب القيصر وعلى النقود صورته وقال له خذها للقيصر وقال للمزارعين عودوا لحقولكم وكلوا من ثمارها ولا تبيعوا الغلال «فما لله لله وما لقيصر لقيصر» وبهذه الطريقة العادلة والمسالمة حل السيد المسيح مشكلة المزارعين.
تفاجأنا نحن -المقيمين في الغرب- عن إلغاء فيلم السهرة عن السيد المسيح وإلإعلان عن فيلم آخر وهو عن قصة الكلبة (HACHI) التي ولدت عام 1923 وماتت عام 1935 والتي أنتج عنها واحد من أهم الأفلام التي تذكر في تاريخ السينما. هذه القصة هي قصة حقيقية وليست من نسج الخيال، مع أنها توحي كذلك.
الكلبة «هاجي» اسمها في اللغة اليابانية «جوكن هاجيكا» فأطلق عليها صاحبها اسم «هاجي».. صاحب الكلبة مولع بها مثل ما هي مولعة به. تذهب معه كل يوم إلى محطة القطار ويأخذ هو قطاره الذي يوصله للعمل، ويتركها في المحطة ويعود بعد الظهر في نهاية الدوام ليجدها بانتظاره ويعودان سعيدين للدار يتناولان وجبة العشاء ويتنزهان بعد العشاء في حقول وغابات المدينة. وذات يوم وبعد سنوات من الحياة اليومية لهما غادرها ذات يوم وصعد القطار ويبدو أن حادثاً أصابه وأودى بحياته. ولم يعد في المساء ولا في اليوم التالي ولا بعد شهور ولا سنوات والكلبة «هاجي» بقيت تنتظره ولم تغادر المحطة وتنام في زواياها، ويطعمها بعض المسافرين وبقيت في انتظاره حتى ماتت في محطة القطار بعد تسع سنوات من الانتظار!
ولقد تقرر أن تنتج إحدى الشركات فيلماً عن هذه العلاقة الوفية بين الكلبة والإنسان، وهذا الحب الذي خسرناه في حياتنا الإنسانية. وقد جلبت كلبة من نفس الفصيل تشبه الكلبة التي ماتت في المحطة كي تمثل الدور!
القناة الفضائية التي تخلت عن عرض فيلم السيد المسيح الذي يعرض كل عام كتقليد للقناة في أوروبا يتمتع الناس بقصة السيد المسيح ويعيدون النظر في علاقاتهم ويتسامحون على ما أخطأوه في بعضهم وينامون سعداء على أمل أن تستجيب الإنسانية لدعوة السلام والتسامح التي جاء بها السيد المسيح.
يبدو بأن القناة الفضائية ومن كثر ما بثت من الأخبار ومن كثر ما سفكت على شاشتها من الدماء ومن كثر ما ألبس الدواعش من الثياب الحمر لضحاياهم ومن كثر عدد الجرائم في سجلات الشرطة وحالات الاغتصاب للأطفال والصبايا ومن كثر انتشار المخدرات التي صارت تطلب في المقاهي مثل ما يطلب الزائر كوب القهوة أو كوب الشاي علناً، بأن الناس باتوا خائفين من مستقبلهم وخائفين على مستقبلهم ومستقبل الأجيال الآتية من أبنائهم فلم تعد دعوة السيد المسيح مؤثرة «المجد لله في العلا وفي الناس المحبة وعلى الأرض السلام» لم تعد هذه الكلمات نافعة فهي شعار لليلة واحدة ليلة عيد الميلاد تنسى في اليوم التالي عندما يصحو الناس من أحلامهم.
القناة الفضائية أرادت أن تقدم للناس مثلاً آخر في الوفاء، وفاء الكلبة «هاجي» التي رفضت العودة إلى الدار دون أن يأتيها صاحبها فتفرح به ويسعد بها. بقيت تنتظره تسع سنوات في محطات القطار، صيفا وشتاءً تحت وهج الشمس وتحت المطر وفي زخم العواصف والثلوج القاسية في أوروبا حتى ماتت في محطة القطار! وأعطت أعلى مثل في الحب والوفاء.
هذا الفيلم وعرضه من القناة شكل صرخة عميقة في الوجدان الإنساني الغربي، بعد أن ملّ المصلحون من تقديم النصح وهداية البشر نحو الطريق المستقيم.
الكلبة (HACHI) تنتمي إلى عائلة (Akita) الكلبية المنحدرة من أصول يابانية!
- هولندا
k.h.sununu@gmail.com