الفيلسوف الألماني غوته يقول: «حيث يوجد الكثير من الضوء يكون الظل عميقاً»، فالبعض من البشر لا يستطيع أن يعيش إلا في الظل، ظل شخص آخر، ظل فكرة، ظل حائط، ظل شجرة، ففي الظل حياة، بعيدة عن الضوء وعن الظلام، تستطيع أن تشاهد الحقيقة ساطعة وتميز بينها وبين الوهم، قد تتشابك أيامنا وتحدث المشاكل فلا نستطيع التمييز بين ما هو أبيض وما هو أسود دائماً، ظلمات الحياة تزورنا ونعجز أحياناً أن نميّز بين درجات ظلماتها، فيكون بينها ظلمات أقل، ثم أقل، ثم شبه ظل، حتى نفتح نافذة نحو الضوء، هكذا هي الحياة اليومية، لا حقيقة مطلقة مجرّده لتطبيقها على كل الناس، فنحن البشر نعتقد أن الحد الفاصل بين الضوء والظلمة حد واضح وفاصل، لكن خلف الضوء والظلمة يقع الظل المليء بملاحمنا وقصصنا وخواطرنا وأفكارنا. إن يوم حياتنا المفترض أنه يبتدئ قبل الضوء بقليل «الفجر» وينتهي بعد هبوط الظلمة بقليل «العشاء» فالظل فلسفة كونيه وجزء من تكوين ساعتنا البيولوجية لنتّحد مع الكون والمخلوقات, الظل يحمل كل ذلك الغموض.. شيء هش لا وجود له ولا شكل له، يعكسنا نراه ولا يرانا، فإذا وجد الظل فاعلم أن الضوء أمامك.
ما زلت أذكر بطفولتي الكرتون الشهير «صاحب الظل الطويل» تدور أحداث المسلسل حول فتاة يتيمة اسمها جودي أبوت، حصلت على منحة للدراسة في المدرسة الثانوية من قِبل شخص لا تعرفه اسمه جون سميث كانت تلقبه جودي بـ «صاحب الظل الطويل» كونها لم يسبق لها أن رأت سوى ظله. المقابل الوحيد الذي اشترطه سميث على جودي مقابل المنحة هو أن تقوم بمراسلته مرة واحدة كل شهر، بدون أن تتوقع رداً منه على رسائلها بالضرورة.
حقيقة أن تلك الرواية من أعظم روايات الظل التي خاطبت الظل كشيء منفصل وله كيانه، فالكاتبة الأمريكية « جين وبستر» ساهمت بشكل مباشر بصناعة فلسفة وخيال الملايين من البشر.
جمال الظل ليس إلا سموّاً بأشياء الحياة الواقعية. القدامى اليابانيون الذين كانوا مجبرين على الإقامة برضا أو إكراه في غرف مظلمة، اكتشفوا الجمال في الظل، وتوصلوا إلى استخدام الظل من أجل الحصول على تأثيرات جمالية.
وفي أوروبا خلال العصور الوسطى كانت تتم من نفس المنطلق، معاقبة ظل النبيل عوضًا عن جسمه كإجراء تحايلي يجنبه الأذى الفعلي, لذلك وجد الظل له مكانة في الفنون والأدب في الشرق وكان مقترناً بالغموض والموت والحياة.. عبارة افتتاحية لابن منظور في لسان العرب: يُقال للرجل إذا مات وبطل: ضحا ظله. يُقال ضحا ظله إذا صار شمساً.. وإذا صار شمساً فقد بطل صاحبه ومات. هذا الارتباط بين الموت والظل في عبارة ابن منظور فتح الباب واسعاً لبحث القيم حول الظل، إذن الضوء يمحونا.
إن مفهوم الظل كما ظهر مما تقدم مفهوم عميق ومتداخل مع فكرة الوجود المطلق والعدم، ومع فكرة التجلي والعماء، ومع فكرة الموت والخلود.. ولا شك أن ارتباط الظل - الشمس بالموت وعنف التحول إلى عالم الغيب يجعلنا نعيد التفكير في مسألة النور والظلمة.. فكلنا راحلون في رحلة باتجاه الضوء، الضوء الداخلي لننير لمن حولنا، أحياناً بفكرة، أحياناً بجملة عابرة، أحياناً بكتاب.
إن الضوء هناك دائماً، موقعنا هو ما يتغير، والظلمة والظل ما هما إلا نتاج ابتعادنا عن الضوء.
أحلام الفهمي - الدمام