كنت في اجتماع مع إحدى الزميلات اللواتي تولين منصبًا إداريًّا في إحدى الإدارات التابعة لإحدى الجامعات المعروفة، وكانت تشتكي من وضعها بين المطرقة والسندان بسبب عملها الإداري, وما يطلبه القسم منها من مهام قد تصل حدّ التعجيز - على حدّ قولها -.
بل تعدى الأمر إلى أن قسمها بات يُدبّر لها العراقيل كُلّما طلبت حقًا لها، بوصفها عضو هيئة تدريس، من مؤتمرات وخلافه, بل تعدى الأمر إلى أنّ رئيستها المباشرة قالت وهي تلوّح لها بتقييم الأداء الوظيفي: «لتوقع إدارتك أوراقك, ما دمتِ رضيتِ بأن تكوني تابعة لها!). وكأن الإدارة هي الضرة للكليّة أو القسم!
ليس هذا وحسب! بل أكدت أنّ الحال قد يصل إلى أنّ أصعب المهمات, واللجان, وأسوأ الجداول، تُسند لأولئك المرتمين في أحضان الإدارة كنوع من التنفير, حتى يعدن إلى رشدهن, ويجددن الولاء لقسمهن, ولكليتهن التي ترى نفسها منفصلة تمامًا عن الإدارات العليا في بعض العمادات!
ثم ختمت هذه الزميلة ببؤس: «تريدين الحق؟ مرجعيتي للقسم أهم من العمل الإداري, فتقييمي بيد الرئيس, والإدارات لا تحمي عضو هيئة التدريس الموكل له عمل إداري من تعسّف هؤلاء الرؤساء». وأردفت: الإدارات يا صديقتي تمتص جهدنا، ولا تمنحنا تميُّزًا, وأقسامنا لا تنظر لنا إلا بواحدة من تهمتين:
- الهروب من العبء التدريسي.
- البدلات التي يظنون أنها السبب الرئيس في هذا الهروب!
بالرغم من عدم وجودها أصلاً, لا في اللوائح, ولا على أرض الواقع, وإذا حصلت فهي تحصل بمحدودية كخارج دوام, وهذه الميزة ليست حصرًا على الإدارات بل تتعداها إلى الأقسام والكليات أيضًا.
نحن إذن أمام مشكلة تحتاج إلى حلّ!
يعاني أعضاء هيئة التدريس في معظم المؤسسات التعليميّة في التعليم العالي خاصّة إشكالية العمل لصالح القسم الذي ينتمون إليه، أو العمل الإداري الذي يعملون فيه, ويكون لصالح الإدارة العليا.
إذ ينظر بعض العُمداء وبعض الرؤساء غالبًا للعضو الذي يقبل بالعمل الإداري على أنّه لم يقبل إلا للهروب من عبء المحاضرات الكثيرة، حتى أصبحت هذه النبرة الانهزامية دارجة عند معظم الأعضاء متى ما ملوا من أعباء النصاب: «أحتاج لعمل إداري؛ لأخفف من نصاب التدريس».
وكلٌّ له أسبابه التي تتفاوت بين صحيّة واجتماعية, وهذا حق مشاع للجميع بلا جدال.
معظم أولئك الذين تصدروا أعمالاً إدارية, ولم يرضوا بالانفصال عن أقسامهم, ولا عن تدريسهم، محاطون بالتهم - غالبًا - وقلّما نستمع لمن يقول: إنما اختيروا؛ لأنهم أكفاء! أو لتميّزهم استحقوا أن نثق بهم!
هذا التشويش الذي يحزن المِعطاء, والطموح, والمتميز.. هو السبب في تأخرنا للوصول لنقطة الإبداع والابتكار التي ينتظرها الوطن منّا؛ فحكمة الإبداع الخالدة تقول: «أعطني فرصة أُعطِكَ فنًا وإبداعًا». وقِلّة هم الذين أُتيحت لهم هذه البيئة الآمنة نفسيًّا.
كيف سيبدع من يشعر بأنّه متهم في نظر كُلّيته وقسمه؟ كيف سيبدع من تلوكه ألسن قد تكون واشية, حاسدة؛ تريده أن ينهزم؛ ليعود, ولا يحقق نجاحًا يُذيّل باسمه؟!
المزعج في الأمر أن المؤسسة واحدة, والتعامل شبه عداء!
فما هو القسم لولا الكلية, وما هي الكلية لولا الجامعة؟
ما لا يعرفه الرؤساء في قمة الهرم أنّ هذا الموظف البسيط الذي رُشِّح للعمل الإداري بتزكية نظير اجتهاده وتميّزه محاط بالتكبيل, ومُخيّر بين منطقتين لا وسطية بينهما!
ترقياتهم بيد أقسامهم التي تسيّر الأمور- في بعضها - وفق معيار: «من خدمني أكثر يستحق التدليل».
مما جعل المتولي منصبًا إداريًّا بعيدًا عن قسمه إما أن يزهد في العمل الإداري, ويختار النجاة حتى لا تتعطل أوراقه, وتُقدَّم أوراق غيره عليه بمعيار «من خدمني أكثر...», أو أن يُعطّل فكره وذهنه, ويغسل يده من الترقيات وما تتطلبه من نصاب تدريسي, وعمل في لجان القسم... إلخ.
وما دامت رحى هذه الحرب ما زالت تدور بصورة أو بأخرى في مؤسسات التعليم العالي, ولأنني - من فضل ربي - لم أكن, ولا أتمنى أن أكون إحدى ضحاياها, لا أملك إلا أن أختم بهذه التساؤلات؛ علَّها تجد إجابة عن المسؤولين بهذا الشأن:
مَنْ المسؤول عن الترويج لمثل هذه المحبطات والمؤثرات التي تؤثر على الإداري الكفؤ؛ ليترك منصبه, أو لا يبدع فيه؟
هل هو الحسد؟ أم عداء خفي بين الإدارات الصغرى والكبرى؟
هل الإدارات العليا في المؤسسات التعليمية تعلم بهذه الرحى التي ما زالت تدور, بنبرة التفريق بين من يعمل لصالح قسمه, وكليته, ومن يعمل لصالح الإدارة كاملة؟
هل هذه المناوشات تتعلق بالإدارات النسائية أم أنّ للرجال نصيبًا منها؟
د. زكيّة بنت محمّد العتيبي - الرياض