مرّت خمس سنوات على رحيل الكاتب الأنيق محمد صادق دياب لكن شيئاً لم يتغير؛ الشجيرات التي زرعها في القلوب تزداد نماءً وثماراً، والحكايات التي لقّنها النوارس أصبحت جزءاً من يوميات الناس وزادهم المتجدد، والصداقات التي تفنن في انتقائها ورعايتها تدين له في كل ساعة بالحب والوفاء والعرفان الذي لا ينقطع.
عاش «العمدة» حياته وفق نظام خاص وفريد كاسراً كل الإطارات، ومبتكراً فضاءات لا تُحد للفكرة وقيادة الرأي وتعدد الأصوات، وصناعة الجدل الحميد بلا ضجيج ولا عداوات أو خسارات، مهما قلت.
توزعت أيامه بين ثلاثة مسارات لم يطغ أحدها على الآخر، ولم تجن النجاحات على بعضها، فهو التربوي الذي يعترف له تلاميذه بالفضل، وقد ترك في الميدان بصمات وعلاقات استندت على تخصصه في علم النفس في فترة كانت المؤسسة التربوية مشغولة ببناء قواعد العمل وصياغة أدبياته فكان هو على قائمة فريق واع ومثابر يحمل رؤية حديثة وجادة. وهو المبدع المعني بالتفاصيل وعمق الحياة واصطياد المختلف من اليوميات. وهو ثالثاً الصحفي الذي ابتكر لنفسه مدرسة توازنُ بين رسالة الصحافة وحاجة السوق وقيم الثقافة فكان أحد رواد الصحافة الثقافية في المملكة، وعلى يديه ترعرعت أجيال من الكتاب والمبدعين.
انشغل كثيرون بجدة عشقاً وتأريخاً لكن محمد صادق دياب، الذي لم يكن الأول، أصبح اسماً مقروناً بها وعمدة يمتد «مركازه» من شمالها إلى جنوبها، ويرتاده الناس إذا أرادوا معرفة أسرارها وعميق فنونها فكان دليلاً أميناً وخازن كل مفاتيح الأهازيج والدروب والأزقة وقارئ الوجوه الحاذق الحكيم. كانت جدة هويته وبيته وهواه الأزلي، من أجلها غامر، وكتب، وتحدى لترفل في عرس أزلي وتقاوم التغييب والتشويه على صعيد الواقع والمرويات.
عندما أصدر نصوصه القصصية «16 حكاية من الحارة» و» ساعة الحائط تدق مرتين» حققت حضوراً جميلاً لدى المتابعين من كل الأطياف لكنه بدا أكثر سعادة عندما علم إقبال أبناء المدارس على قراءتها وتداولها يعيشون عبر زواياها وثراء كلماتها أجزاء من حياة آبائهم وأجدادهم رصدها «العمدة» وقدّمها بعين مؤرّخ وتربوي مبدع يمتلك قاموساً سهلاً وعميقاً.
قبل وفاته بأشهر أصدر روايته الشهيرة» مقام حجاز» لتكون علامة مختلفة في مسار الرواية المحلية فقد جرت عاداته وتقاليده أن يستمد مادته من حياة الناس وتحولات جدة وحاراتها؛ وهي خصبة انشغل بها بعض المؤرخين وخذلها المبدعون فكان أكثر وفاءً، ويمتد ذلك حتى بعد وفاته فقد صدرت بالتزامن مع معرض الكتاب بجدة روايته التي تحدث عنها كثيراً «خواجة ينّي»، وفي اليوم الأول للمعرض اعتلت قائمة أكثر الكتب مبيعاً، وقد كان ذلك متوقعاً، وهي جديرة بذلك.
تتناول الرواية شخصية إيطالية شاركت أهالي جدة الحياة بكل منعطفاتها وألقها وسمرها فأصبحت جزءاً من نسيج المجتمع والاقتصاد اجتثها الرحيل بشكل مباغت وصادم. حكاية الخواجة يني عرفنا تفاصيلها من «العمدة» ومن غيره، لكنه منحها هنا حياة جديدة وأعادها للواجهة ممزوجة بالمواويل وأغاني البحارة وابتسامات الجميلات لتضاف إلى نصوص سردية رائعة كتبها طيلة حياته ستبقى خالدة في ذاكرة الأجيال.
لا أظن هذه الرواية آخر نص من أعمال الراحل، ولا آخر نص لم ينشر فربما بقيت أعمال أخرى لم تر النور، يضاف إليها سلسلة المقالات التي أبدعها طيلة عمله الصحفي متنقلاً بين عدة مطبوعات، ولا تقل مقالاته الموجزة ثراءً وإبداعاً ودهشة عن نصوصه القصصية، ولعلها تطبع قريباً لتكون ضمن الإرث الثقافي الذي لا نستغني عنه.
محمد المنقري - جدة