تشير دراسات اللغة السامية إلى أن استعمال لفظ المدينة بدأ عند الآرميين بمعنى الناحية أو الجهة أو المنطقة أو الدائرة التي تتبع لقاض واحد، وتوضح المقارنة بين اللغات السامية أن الميم زائدة في لفظ مدينة، وليس كما ذهب النحويون واللغويون العرب أنها أصلية. والديان هو القاضي وهو الحاكم؛ ولذا مدح الشاعر الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:
يا سيد الناس وديان العرب
ولكن أيوجد فرق بين مسمى قرية ومدينة أم هما مترادفان؟ وحين سميت مكة بأم القرى وسميت يثرب بالمدينة في القرآن ألذلك دلالة؟
يبدو أن مكة سميت بأم القرى هل لأنها أول قرية أم لأنها أكبر قرية أم لأنها القرية المسيطرة على بقية القرى؟ أما يثرب فهي مدينة. وقد ذكرت المدينة لمجموعة من المدن خارج الجزيرة العربية في القرآن الكريم.
فهل الفرق هو ما يتبادر إلى الذهن لأول وهلة أن المدينة هي أكبر من القرية حجماً وأكثر سكاناً، وأنها لا تعتمد على الزراعة والرعي فقط في مواردها؟
لكن مكة والمدينة تكادان تتشبهان ولا فرق بينهما تقريباً في الحجم، ولا في كثرة السكان.
إن الفرق - في نظري - أن المدينة تحتوي على تنوع سكاني لا يوجد في القرية؛ ما يستدعي حكماً وقضاء وتنظيمات خاصة. وهذا كان مما تتميز به المدينة ولا يوجد في مكة. نعم يوجد في مكة بعض من غير العرب، ولكن لم يكن لهم تجمع ولهم كثرة متجانسة تخالف كثرة متجانسة أخرى، أي وضعهم كان في صناعات هامشية، وفي ظل أكثرية تجانسية واحدة.
أما المدينة المنورة وما قد يكون ذكر في القرآن فالقاسم بينها أن حجم تلك المدن استدعى وجود أقليات أو فئات مختلفة. وهنا يرتقى القضاء والحكم؛ ليكون حكم مدينة وليس حكم قرية. وهذا ما فعله الرسول حين كتب دستوراً مدنياً، وحين كفل لليهود حرية العبادة، وكفل للمعارضين حرية المعارضة، وكفل للمسلمين حرية الاعتراض وحرية الشورى. لم يكن الرسول ملكاً ولم يكن حكماً ولم يصف نفسه بهذين الوصفين أبداً؛ لذلك كان الحكم في المدينة حكماً يتكون من لجنة اشترك في اتخاذ القرار فيها كبار المهاجرين والأنصار وحتى اليهود في إطار الدستور. وقد بقي لليهود كامل حقوق المواطنة المدنية، كما تم استفتاء الناس بصورة جماعية على كثير من القضايا الحساسة، كالخروج للحرب.
لذا فإنني أتفق تماماً مع الدكتور فالح العجمي في أن الدولة في عهد الرسول وفي معظم عصر الخلفاء الراشدين كانت دولة مدنية وليس دولة دينية ثيوقراطية، وإن كان المعيار الذي وضعه العجمي على أهميته وهو تغليب المصلحة العامة ليس كافياً في التفريق بين الدولة المدنية والثيوقراطية الدينية.
ما يهمنا أن المدينة تعني التنوع وتعني الحرية في ممارسة العبادة، وتعني جماعات ضغط ودورة اقتصادية أكبر من حياة القرية. وهذا ما تميزت به في الجزيرة العربية يثرب؛ لذا انتقل الرسول إليها، ورفض عرض الطفيل بن عمرو الدوسي إلى ديار دوس (في شمال منطقة الباحة الآن. تبعد عن الباحة نحو خمسين كيلاً شمالاً)؛ لأن هذا المكان عبارة عن قرى صغيرة نائية لن تتضح فيها قيمة وأبعاد الدعوة الجديدة التي تمثل خاتم الأديان.
نخرج من هذا الكلام أن المدينة اجتماع بشري خاص، وليس شرطاً أن يكون كبيراً أو كثير السكان ليسمى مدنية، وإنما المدينة ما كان فيها حكم مدني قائم على قضاء خاص يتيح التعددية تبعاً لتنوع أعراق الساكنين في المدينة وتنوع سكانها؛ لذا فإن المدينة لا يمكن أن تعيش مع إيديولوجيا واحدة تقوم على تنميط الفكر. وفي ظني، إن نمط هذه المدن ذات اللون الواحد هو قرى أو أم قرى. ومن هنا فإن معظم ما يسمى مدناً يطلق عليها هذا المسمى من باب التغليب، وإلا فهي قرى. وقد شاهدنا في معرض الرياض للكتاب كيف تتم بشدة محاولة قرونة الرياض، أي جعلها قرية تتحكم فيها نمطية إيديولوجية واحدة. إن هذه القرونة في تحديها للناس وللسلطة تدل على أن الفكر هو فكر لما يزل في معظم الأجزاء هو فكر مؤدلج مقرون.. لقد كان الناس في قلق مما يحدث في معرض الرياض، وكان تخصيص النساء بيوم لهن، ثم إتاحة الحضور للنساء والرجال معاً، ثم المطاردات التي ظهرت وأضحكت الكثير على المستوى الحضاري للرياض في مقابل مدن أقل منها أهمية في الخليج العربي، دليل على تغلغل القرونة الإيديولوجية في عاصمة ذات مساحة كبيرة كالرياض. إن أفق المدينة يكاد يكون مفقوداً لولا الضخامة الاقتصادية التي تتدفق في عروقها، ولولا القيمة السياسية العالمية لها.
إن المدينة هي فضاء للغيرية.. وكما يقول عبدالعزيز بو مسهولي إن التفكير في واقعة المدينة هو تفكير في المعرفة باعتبارها تجلياً لعلاقات بينية، تتأسس داخل فضاء مشترك خاصيته الأساسية تتمثل في الغيرية والقبول بالتعدد. والمدينة هي فن تقاسم العيش مع الغير، ومن هنا فإن الفلسفة وفعل التفلسف لا يمكن أن ينشأ إلا في مدينة، ومدينة من غير فلسفة ليست مدينة. كما أن فلسفة من غير مدينة ليست فلسفة. ومن هنا يمكن أن نقول لماذا اختفت الفلسفة من العالم العربي؛ لأنه خال في الحقيقة من المجتمع المدني القائم على التعددية والحرية؛ لذا صارت الفلسفة مجرد دروس في تأريخ الفلسفة ومترجمات عن الغرب. ولو دققنا النظر في وضع الأقليات لوجدناها مهمشة في العالم العربي؛ لأنه في الغالب لا يتمتع بمدينية مؤسسات المجتمع المدني بل إن شعوباً ومناطق تتحول إلى أقليات، وهي من السكان الأصليين؛ لأنها تعامل معاملة الأقلية العنصرية الإقصائية، ويتلاشى التنوع والتعدد والقيم التوافقية في سبيل سيطرة تهمش الآخر وتحتقره وتبعده عن المشاركة في صنع القرار؛ لذا فإن التعامل المدني الذي تشكل ممارسة لا تنظيراً في بعض العهود أو بعض العصور البشرية الماضية، ووصل إليه التنظيم البشري الراقي في أوروبا، هو الشرط في أن تكون المدينة مدينة أو لا.
د. جمعان عبدالكريم - الباحة