يوم عالمي يحكي لنا تحول الحال للعربية باصطفافها مع اللغات العالمية المقررة رسمياً في الأمم المتحدة؛ فماذا يعني لنا هذا اليوم؟ وما الذي نريده من هذا اليوم في كل عام؟ وقبل البدء بالمرور على ما يمكن أن يجيبنا عليه هذا السؤال، دعونا نقف بالقدر اليسير على وضع اللغة العربية؛ والوضع هنا لا أعني به الاستعمال اللغوي بشكل تجريدي كون العربية وغيرها من حيث الاستعمال متدفقةً على مستويات لغوية معقدة بالنسبة والتناسب مع حجم الجماعة اللغوية، بل أعني به الواقع الاستعمالي، وكذلك الواقع التواصلي والواقع التداولي على المستويين الكتابي والشفهي.
فالواقع الاستعمالي النموذجي غالباً ما يكون تقليديًا لعرف لغوي بيئي ثفافي مكتسب، ويصعب أن تظهر استعمالات لغوية ثقافية عربية جديدة من غير التوسّل بسياق الترجمات من اللغات والثقافات الأخرى، كما أن العربية نفسها قد تطغى عليها المجازية بصورة تجعل الواقع الاستعمالي اللغوي ترادفيًا verbiage يتكرر فيه المعنى وتكثر فيه الاستعارات إلى الدرجة التي صار ترسيم الحدود العلمية والمعرفية والثقافية فيها غير تمييزي بصورة كبيرة. ثم إن اللغة العلمية لا تظهر في أية لغة إلا عن طريقين؛ الأولى: الترجمة والنقل وتوالد عناصر جديدة-كما قلنا-، والثانية: الإبداع، والأخير تعطّل حقيقة في عدة مراحل زمنية على مستوى المؤسسات والمختصين منذ بزوغ العصر الحديث في مصر وحتى يومنا هذا في العالم العربي أجمع.
والإبداع أن تُترك العربية بمعجمها وذخيرتها ونصوصها تتوالد دون أن يكون لذلك تصدٍّ عن طريق التقييس النحوي واللغوي المتشعّب، كما أن الإبداع هنا حري بأن يتشابه مع الإبداع في لغات العالم، حيث إن تطور المعجم اللغوي في اللغات العالمية لا يخضع للجان لغوية تمحيصية غير متفقة تلعب دور قبول عبارة علمية أو رفضها بالأقيسة التعليمية التقليدية. والإبداع أيضا لا يتأتى إلا من ذوي الاختصاصات العلمية، فما يمكن أن يتجدد في الطب أو في الهندسة أو في الحاسب من أهل الاختصاص يكون هو اللغة، وما يسبك من مقابلات عربية لمصطلحات أجنبية من حقول اختصاصها يكون هو اللغة أيضا، ولندع اللغة التي تفوق الواقع تُرتّب نفسها وتعيد تنظيم معادلات منطقها بجماعاتها اللغوية المتنوعة بتنوع الاختصاص والاتجاه والمعجم الذهني.
وفي الواقع التواصلي للغة العربية سلوكيات لغوية يجب أن تتقلص كذلك، ويكون الاحتفاء بالعربية سنوياً متعايشاً مع هذا التقلّص، ومن هذه السلوكيات: عبارات الجزم والجور والثورة والظلم والإنقاص والهمز واللمز والتعنصر والتأدلج واجتماعيّات المصالح الشخصية vested interests sociology والتحايل والتعميم. ففي بعض مواقع التواصل الاجتماعي العربي واقع تواصلي ينبئ عن سلوكٍ لغوي متدنٍ، وينبئ عن إطار لغوي تواصلي مستتر، أو خجول، أو مصاب بالعيّ والكره وسوء التربية، أو مليء بعبارات الجزم والجور، أو بعبارات تعصبية لا تحمل في طياتها إلا النزق والرعونة.
ويُلحظ أيضًا في الواقع الاستعمالي والتواصلي تلك العبارات اللغوية القائمة على العموميات؛ وبخاصة في اللوائح النظامية والتنظيمات الإدارية على مستوى القطاعات العامة والخاصة، واستغراقها في العمومية يُنبئ عن مشكلة استعمال العربية بطريقة غير تصنيفية ودقيقة، وهذا في الوقت نفسه يُضعف العربية، ويُضعف التداول بها، ويُضعف العقل العربي، ويجعل هذا العقل في تيه العموم لغةً وسلوكًا، ويوحي بضمور في تنظيم الواقع باللغة، وعجزٍ في التفكير اللغوي العلمي والإداري والمهني بها. ومن المؤسف كثيرًا أن يكون العقلُ في مستويات عالية من التفكير ثم لا يكون قادرا على تسوية التقارب الموضوعي بين هذا المستوى وبين اللغة العربية؛ وبخاصة على المستوى الشفهي. والغريب كذلك هو أن الأنظمة الدولية التي تُترجم إلى العربية تكون بالعربية نفسها دقيقة وتفصيلية، وقد يكون ذلك مؤشرًا إلى أن المشكلة تكمن في مستعملي العربية أنفسهم عندما تكون العموميات في العربية من غير ترجمة وتكون الدقائق والتفصيلات متشكلة في النصوص العربية الإدارية المترجمة من اللغات الأخرى، ولا يسعف العربية في ذلك إلا النقل الترجمي والمعاجم الثنائية المعاصرة الدقيقة والخبرات الفردية التي تتمتع بمعرفة لغة غير العربية في سبك نصوص الإدارة والأنظمة، وهذا مؤشر آخر على أن المعجم العربي الذهني الذي تركّب منذ النشأة ليس معجماً علمياً بقدر ما هو معجم إنشائي يُكرر نفسه ويدور حول نفسه.
وهناك إشكال على المستوى التداولي بالعربية، وأعني بذلك تداول العربية مع ذاتها أو العربية مع اللغات الأخرى، فالاستعمال التداولي العربي الرسمي الشفهي على وجه التحديد يعيش في عوالم غير متراكبة، ومثل هذا المواقف تحتاج إلى أن تُعالج أيضا، وكل لغة متداولة لا ترتبط بواقع إيجابي تتحول بالضرورة إلى استعمال لغوي سلبي لا يُفعم الذات بحركة التفاعل الدقيق والحصيف، كما أنه لا بد من كشف الاستعمال التداولي الضعيف (غير الموثوق به أو المخالف لنتائج الحياة في المستقبل) وفقا لواقع المجتمع العربي؛ لأنه أحد الاتجاهات العملية إلى تصحيح الواقع اللغوي وتصحيح الطريقة الاستعمالية التداولية المجتمعية التي تُكسب المتحدثين بالعربية حس المصداقية والموثوقية بلغتهم على العموم، وهنا أقول: إن أكبر مشكلة في عدم الثقة باستعمال العربية والتداول بها كما هو مأمول والاهتمام بالتطوير الذاتي فيها يعود إلى البون الشاسع بين ما تقوله هذه اللغة، أو ما يقال بها على وجه العموم والأغلبية، وبين الواقع الرسمي الاستعمالي والتواصلي والتداولي.
والغريب في بعض المواقف العربية أيضا هو ذلك الاتجاه الذي يرى بأن تداول اللغة الثانية والثالثة لغرض الحاجة التوسعية المعرفية سيؤدي بالضرورة إلى ضعف العربية، وهذا غير صحيح على الإطلاق، فليس من العلمية أو من الواقعية العلمية اللغوية البيئية بشيء أن نظن بأن ذلك سيؤثر، والدلائل العلمية على ذلك حاضرة. ثم إن هناك نظرة سلبية إلى اللغة الإنجليزية ومهيمنة على عقول الغيورين على العربية، وهي نظرة لا تحتكم إلى الواقع ولا تحتكم إلى العلمية الواقعية، فالإنجليزية لم تعد إنجليزية الولايات المتحدة الأمريكية ولا غيرها من الدول المتحدثة بها كلغة أولى؛ وما هي اليوم إلى لغة عالمية امتلكها الجميع، وأضاف لها الجميع، ويُصحح مسارها كثيرا ممن هم ليسوا في الأصل من أهلها، وعليه لا نحتاج إلى أن نسيء لها أو إلى لغيرها عند امتداح العربية وعالميتها اليوم.
وعودةً إلى السؤال في الفقرة الأولى: ما الذي يعنيه لنا هذا اليوم؟ وما الذي يهمنا فيه؟ بما أنه يوم نحتفي فيه بدخول اللغة العربية رسميا ضمن اللغات الست العالمية في الأمم المتحدة، فإني أدعو إلى أن يكون هناك تفعيل سنوي لرصد الواقع الاستعمالي والواقع التواصلي والواقع التداولي المكتوب والمنطوق، ويكون غرض هذا الرصد الوقوف على غموض التوظيف اللغوي أو زيفه أو عموميته على صعيد المستويات الاستعمالية والتواصلية والتداولية، وليكن هذا الرصد متشابها مع الميزانيات المالية السنوية، فيقف على الصادرات اللغوية من مواقع الإنترنت والتواصل الاجتماعي ومن الاستعمال الحكومي والإداري الرسمي، ويعيد توريدها بالتكميم والنقد من جهة، وبالإحصاءات غير المنحازة من جهة ثانية، وبنشر نتائج هذا الرصد دون تحديد مراجعها؛ وفي ذلك ضمان ضمني يساعد المتلقي الجمعي على إعادة النظر في كيفيات استعمالاته اللغوية على صعيد تلك المستويات، وكل ذلك قد بات سهلا في ظل تطور تقنيات التواصل اللغوي الاجتماعي وتقنيات الاسترداد المعلوماتي.
وليكن توريد الاستعمال اللغوي وتواصله وتداوله الرسمي محل اهتمام مجلس التعاون الخليجي ومكتب التربية العربي لدول الخليج مثلا، وليكن توريد ذلك الاستعمال وتواصله وتداوله في مواقع التواصل الاجتماعي محل اهتمام منظمة اليونيسكو مثلا، أو ليكن كما يراد له أن يكون، لأن المهم هو في أن يكون؛ وذلك لما له من دور كبير في تنقية الكثير من الإنتاج اللغوي البيئي الطبيعي العام من جهة، وتحفيز الاستعمال اللغوي الإبداعي والبناء من جهة ثانية، وإعادة ضبط الثقة المجتمعية بين الإنتاج اللغوي والواقع المجتمعي.
ولا يقتصر الأمر على الاستعمال العربي المعاصر، فالتاريخ النصي العربي مليء بعبارات سلبية، وبعبارات التحدي والإنقاص والتقليل، وورود هذه العبارات أمر طبيعي، والنصوص التاريخية لمعظم اللغات مليئة بذلك، ويبقى ما ليس طبيعيا في قبول هذه العبارات وتفعيلها على المستوى الرسمي.
لقد تغيرت الإنجليزية كثيرا بفعل طويل عبر مراحل طويلة بُني من عدة مؤسسات قانونية وتربوية ومدنية، والدّمْقَرَطَة democratization قد أنجعت تلك المراحل، وساعدت على إرساء نزعة اجتماعية مستمرة تسعى إلى التخلص من الاستعمال اللغوي غير العادل أو الملامح اللغوية العُنجهيّة للتعبير عن معنى ما، والتعويد التربوي الاجتماعي الحسي العام على الابتعاد عن العنصر اللغوي الصريح الذي تتسم به علاقات السلطوية الاجتماعية المقيتة، وكل ذلك أدى -على سبيل المثال- إلى تراجع استخدام الفعل must (الإلزامي) الذي يتضمن هيمنة سلطوية لشخص على آخر، وغيرها من أمثلة نلحظها في المعاجم الإنجليزية؛ كأن نجد في تعريف بعض الكلمات عبارة this word is disapproval أو do not use this word أو avoid using this word وكلها تدل على سلبيّة التداول بها.
وفي هذه التجربة، اهتمت جامعة كلية لندن بما يسمى بمسح الاستعمال الإنجليزي Survey of English Usage، الذي بدأ في عام 1959م وحتى يومنا هذا، ومن سياسات تهذيب اللغة language cultivation فيه إجراء عمليات رصد الاستعمال اللغوي ورصد العبارات اللغوية السلبية. وفي تجربة وادي السيليكون Silicon Valley الذي تأسس في عام 2003 في أوستن، والذي يهدف إلى تحليل البيانات اللغوية والاتجاهات الثقافية للإنجليزيات العالمية، نجد وقوف هذا المشروع على الاستعمالات الجديدة للإنجليزية، وفي المقابل نجده أيضاً يهتم بتبيان الصورة الواقعية لواقع الاستعمال على المواقع الشبكية ومواقع التواصل الاجتماعي التي تبلغ وسائلها ما يقارب 275 مليون على مستوى العالم.
وفي مقابل ما يلعبه هذا النوع من المعالجة للغة العربية على الصعيد ا لاستعمالي والتواصلي والتداولي من تهذيب معجمي وارتقاء واقعي، أذكر هنا ما لا يخدم اللغة العربية وما لا يخدم اليوم العالمي للغة العربية من رومانسيات؛ ومن بعض هذه الاتجاهات:
القول: إن العربية هي أفضل اللغات، وهنا أقول: نعم هي الأفضل لأنها لغتنا، ولكن التفضيل بين اللغات ليس منهجا علميا مقبولًا على الإطلاق.
أو القول: إن العربية أكثر لغات الأرض مفردات وتراكيب، وهذا الكلام ليس دقيقًا أيضا؛ فالعربية لها امتداد تاريخي طويل وامتداد جغرافي شاسع، ولو كانت الإنجليزية القديمة والوسطى والحديثة - على وجه الافتراض-قائمة بذاتها اليوم وكلها لغة إنجليزية حاضرة الاستعمال بتراكيبها ومعجمها ومفرداتها لكانت ضخمة بصورة لن تقل عن حجم العربية المتناثر.
أو القول: إن اللغة العربية هي اللغة الوحيدة التي تعبر عن الشيء الواحد بمئات الألفاظ، علما بأن قضية الألفاظ في علم اللغة البيئي نسبيُّ، إذ لوحظ في المقابل لغات تعبر عن الشيء الواحد بمئات الكلمات كالثلج مثلاً في الروسية.
ومثل هذا الأقاويل ليست إلا ضمن إطار الرومانسيات، والقول بها لا يقدم حالاً ولا يؤخره، ولكن ما لا ينفع فعلاً هو أن تُتبنى من المؤسسات والهيئات والمنظمات المعنية بالعربية بشكل رسمي وتدويري، وما يُؤمل في المقابل هو أن نكون اللغةَ العربية التي تتطور وتكشف عن تطورها، وتتسع وتكشف عن توسعها، وتتعلمن وتكشف عن علميّتها، وتتهذب وتكشف عن علو أدبياتها، وتعيد نفسها بأهلها في تنظيم الحياة، وتقنين المدنية، وتوسيع المدارك، وتفتّح المعارف، وأن تكون كائنا حيًا يشاد به دون أن يُرثى له.
واليوم العالمي للغة العربية، وبكونه عالمياً، يتطلب أن نكون معه واقعيين، والواقعية تتطلب أن نكون صادقين في التحليل وصادقين في التوصيف حتى تصدق معنا المعالجة والحلول، وحتى تصدق معنا عالميتها في كل عام، والمأمول منذ هذه اللحظة هو أن نوظف المعايير الجاهزة والضامنة لتطوير واقع اللغة، وهذه المعايير مُجراة على عدة لغات، والتجريبية -كما يقال- خير برهان. ومن أهم هذه المعايير هي أن تكون اللغة العربية لغةَ علوم ومعارف يتغذى عليها الناشئة، ولغةً تتصاحب مع لغة أخرى عند الناشئة أيضاً، ولا مشكل في ذلك على الإطلاق إن أُحسن المنهج التعليمي والتربوي فيها، وأن يكون الاحتفاء بالعربية في كل سنة على مستوى المنظمات والمراكز المعنية معتمدًا على الرصد اللغوي السنوي، وأن يكون كذلك معتمدا على تكميم هذا الرصد على المستويين الكتابي والشفهي، وعلى الأصعدة الاستعمالية والتواصلية والتداولية، وأن يكون لغرض تبيان عيوب الاستعمال اللغوي على المستويات الأخلاقية والثقافية والمعجمية، وأن يكون غرض الرصد أيضا من أجل بثّ حسّ لغوي استعمالي عربي يرفع من قيمة الاستعمال وينبذ كل ما يحطّ من قدره.
إذن: نكون هنا أمام أربعة تحديات؛ الأول: مراقبة مسار الواقع الاستعمالي والتواصلي والتداولي عن طريق رصده وتكميمه ونشره والتوعية بتجنب ما يحط من قدره الواقعي بناء على معطياته على مستويات المجتمع والقطاعات الحكومية والخاصة، وتقريب الواقع اللغوي مع الواقع المجتمعي، لتكون اللغة العربية قولًا وفعلًا، ولتزرع الثقة العربية في استعمالاتها. والثاني: جعل العربية لغة علوم ومعارف بالترجمة والإبداع التوليدي اللغوي، وتربية الناشئة على ذلك بدلا من النصوص العربية التراثية المرتبكة مع الواقع العصري اليوم الذي يتطلب لغةً تحليلية تنسجم مع أدوات التفكير الجديد في القرن الحادي والعشرين. والثالث: تقبّل التحدي الأول والثاني والاقتناع بهما تقول الأجيال القادمة: هذّبنا لغتنا فأحسنا تخطيطها للعلم والمعرفة والاستعمال والتواصل والتداول العلمي. والرابع: الاحتفاء بالعربية في كل عام بتجاوز التحديات الثلاثة وتطبيقها فعليًا... وكل عام والعربية - بإذن الله- على أحسن حال.
د. سلطان المجيول - الرياض