هي أيام أربعة كانت حافلة بنشاط أدبي وثقافي استوعبته هذه الأيام القليلة. كان زميلي في هذه الرحلة المباركة الأستاذ الدكتور محمد بن عبد الرحمن الربيع الذي يلم بمناشط الثقافة واللغة والأدب وروادها في مصر كما يلم بها في وطنه. كان الهدف الأول من الرحلة الإسهام في فعاليات تكريم الأستاذ الدكتور أحمد درويش بمناسبة بلوغه السبعين عاماً من عمره المديد. وكان قد مكث في المملكة عامين أستاذاً في قسم الأدب بكلية اللغة العربية.
وكانت اثنينية الأستاذ محمد بن صالح النعيم الثقافية في الأحساء قد سعت إلى هذا التكريم منذ وقت مبكر؛ فاستكتبت بعض زملائه ومحبيه بحوثاً عن حياته ومنجزاته في الأدب والنقد والعمل الأكاديمي، وكنت أحدهم. توقعت أن يقام حفل التكريم قبل سنة من إقامته، ولكن تأخر إنجاز بعض البحوث حال دون ذلك، وأشعرتُ أن التكريم سيقام في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وهي الكلية التي تخرج فيها طالباً، وعاد إليها أستاذاً، غير أن انشغال الكلية بأعمال أخرى حال دون إقامته في رحابها.
حدد مكان الاحتفال في المجلس الأعلى للثقافة في مساء يوم الثلاثاء ليلة الأربعاء 14-1-1437هـ- 27-10-2015م. وقبل موعد التكريم بوقتٍ كافٍ غادرنا مطار الملك خالد الدولي الساعة الرابعة والنصف من فجر يوم الثلاثاء على طائرة مصر للطيران رقم Ms650، وحططنا في ميناء القاهرة الجوي في وقت مبكر، وانتظمنا وقتاً في صفوف القادمين ريثما ختم جوازانا، وانتظرنا في ساحة المطار مديدة ريثما لحق بنا الأستاذ الدكتور فريد عبد الظاهر عميد كلية الألسن (اللغات والترجمة) في جامعة أسوان، وكان قد قدم من هناك منذ هنيهات. فلا يعلم عن قدوم الدكتور محمد الربيع إلى القاهرة؛ حتى يسبقه إليها بالرحلة من أسوان حيث مقر عمله بالطائرة أو القطار، وكان زميلاً لنا منذ سنوات خلت في كلية اللغة العربية، ورأيت ـ خلال إقامتنا في مصر ـ أن علاقته برجال الثقافة والأدب والوسط الجامعي غير عادية. تناولنا قبل أن نغادر ساحة المطار كأساً من الشاي ونحن حول السيارة التي وضعنا فيها حقائبنا؛ ليبعث فينا شيئاً من النشاط بعد ليلة حرمنا فيها من النوم، ولو إغفاءة يسيرة، وبعد وجبة دسمة أكرمنا بها مضيفو الطائرة. كان الوقت مبكراً للذهاب إلى الفندق، وأحببنا أن نستغل وقتنا فيما يفيد ويمتع. فأبديت رغبتي للدكتور فريد في زيارة منزل العقاد إن أمكن فهو يعرف أسرة العقاد، وله بها علاقة. كانت الساعة الثامنة صباحاً، فاتصل بالأستاذ عبد العزيز بن أحمد العقاد، وهو ابن شقيق العقاد، ومن حسن الحظ وجده في القاهرة، إذ إن وقته مقسم بين القاهرة وأسوان، وكان إذا قدم إلى القاهرة أقام في منزل عمه. وكان قبل تقاعده يرأس شركة لصناعة التلفزيون، فاتحه في إمكان زيارتنا لمنزل عمه، فرحب وقال: أنا في انتظاركم، ووصف لنا موقع المنزل. كنت قد كتبتُ مقالة مطولة منذ نحو عشرين عاماً عنوانها (ساعة في بيت العقاد) اعتمدت فيها على كتب العقاد: في بيتي، وحياة قلم، وعالم السدود والقيود، وكانت لنا أيام في صالون العقاد لأنيس منصور، وأنا للعقاد، والعنوان وضعه طاهر أحمد الطناحي رئيس تحرير مجلة الهلال آنذاك على لسان العقاد؛ فلم يكن للعقاد كتاب بهذا العنوان، ولمحات من حياة العقاد المجهولة، وغراميات العقاد، وآخر كلمات العقاد لعامر بن أحمد العقاد ابن أخيه. كانت شوارع القاهرة وطرقاتها تشهد ازدحاماً شديداً، فلم نبلغ قلعة العقاد إلا بعد أن طوفنا في الطرقات صعدنا السلم (الدرج)، وهو يتكون من عدة درات، لم أعددها، كان العقاد يقفزها ثلاثاً ثم اثنتين، ثم واحدة تبعاً لسنه. استقبلنا المضيف ببشاشة وترحاب، دلفنا إلى المنزل، وألفينا الأستاذ عبد العزيز قد أثثه، واتخذه سكناً حينما يأتي إلى القاهرة. كان أول سؤال سألته أين القاعة التي يعقد فيها العقاد ندوته الضحوية كل جمعة، فدلنا عليها، فوجدناها غرفة متوسطة هي إلى الصغر أقرب، فعجبنا كيف تتسع لرواد الندوة وهم كثر، لا شك أنهم كانوا يتزاحمون كما رأينا في صور الندوة. ثم سألت عن الكرسي الذي يقتعده العقاد في أثناء الندوة، فكشف الغطاء عنه فإذا الكرسي كنبة خشبية تتسع لشخصين مبطنة بقماش أحمر. وقال: هذا كرسي العقاد لم ينقل من موضعه، جلست أنا وأبو هشام حيث يجلس الأستاذ الكبير يجيب عن أسئلة الحاضرين في إفاضة وسعة ثقافة، وتمنيت أن يكون لي بعض هذا العلم الذي ينثره العقاد على مريديه وجلسائه. قدم لنا مضيفنا الكريم كؤوس الشاي، وأخذنا صوراً تذكارية، ثم رغبت إلى الأخ عبد العزيز أن يريني النافذة التي أطلقت من جهتها الرصاصة على العقاد في أثناء صراعه السياسي، فقدر الله أن يتلافاها حينما انحنى ليلتقط كتاباً سقط من الرف، فمرت الرصاصة دون أن تصيبه، وكان الهاتف بجانب النافذة، ومن عادة العقاد إذا هاتفه أحد أو هاتف أحداً أن يقف بمواجهة النافذة التي أطلقت نحوها الرصاصة. كان المجرم قد اتفق مع شخص يهاتف العقاد، فإذا وقف بجانب النافذة يخاطب المتكلم أطلق عليه الرصاصة. ثم طلبت منه أن يريني موضع لوحة رسمها له الفنان صلاح الدين طاهر بطلب منه بعد أن مرّ بتجربة عاطفية قاسية أحب أن ينظر إليها دائماً باشمئزاز.
في نهاية اللقاء أهدى ابن أخي العقاد (على غرار قولهم: ابن أخي الأصمعي) لكل منا طريداً ملفوفاً بورق السلوفان الملون الأنيق فلما فتحته وجدت خمسة كتب بالقطع الصغير هي: عبقرية محمد، وعبقرية الصديق، وعبقرية عمر، وعبقرية الإمام، والديمقراطية في الإسلام، وهي من منشورات مكتبة الأسرة التي كانت ترعاها السيدة سوزان مبارك، ما عدا عبقرية الإمام، فهو من منشورات سلسلة (اقرأ). وقد احتفظت بالغلاف كما احتفظت ما بداخله، لأنهما خارجان من بيت العقاد.
منزل العقاد شقة عادية ينزل مثلها كثير من الناس، ولكنني عجبت كيف اتسعت غرفها لمكتبته التي قيل: إنها تتكون من خمسة وعشرين ألف كتاب، ويزول العجب حين ندرك أن الشقة كلها مكتبة غرفاً وممرات ومطبخاً وقاعة جلوس، والخزائن تغص بما فيها من كتب ركم بعضها فوق بعض. والمكتبة التي رحل عنها هي مكتبته الثالثة فقد كون قبل ذلك مكتبتين ذهبتا أيادي سبأ. كان هذا المنزل مصدر إشعاع وعلم وثقافة مدة أربعين عاماً؛ لعله في مقدمة المنازل ـ بعد بيوت الله ـ التي أسهمت في تثقيف القارئ العربي المعاصر.
غادرنا قلعة العقاد التي رأيناها بناء قديماً، وغرفاً حال لون جدرانها، فهي في حاجة إلى طلاء جديد.غادرناها يباباً بلقعاً من صاحبها الذي مكث فيها أربعين عاماً منذ عام 1924م، ألف فيها معظم كتبه ودواوين شعره، وقدم إليها شاباً وغادرها علماً شامخاً من أعلام الأدب والثقافة والفكر. بلغنا الفندق بعيد الظهر، ونلنا قسطاً يسيراً من الراحة استعداداً لحفل المساء.
وصلنا إلى مقر الحفل قبيل المغرب، واستقبلنا الأستاذ الدكتور محمد أبو الفضل بدران الأمين العام للمجلس وزملاؤه استقبالاً أخوياً كريماً، وقدمت لنا صحاف التمر دليلاً على كرم الضيافة ونبل الاستقبال. وهذه أول مرة أرى تمراً على مائدة مصرية. وهذا دليل على أن هذه المادة الغذائية الغنية بما يحتاج إليه الجسم من عناصر تمده بالطاقة والقوة بدأت تشق طريقها إلى الموائد خارج حدود الجزيرة العربية. بعد أن توافد المدعوون من زملاء المكرم وتلاميذه وأصدقائه. انتقلنا إلى قاعة الاحتفال، كان الحضور رائعاً، وكان البرنامج حافلاً بالكلمات والشعر وملخصات البحوث. حضر الاحتفال من الجانب السعودي أربعة هم: الأخ الدكتور محمد بن عبد الرحمن الربيّع، والأستاذ محمد بن صالح النعيم، والأستاذة معصومة العبد الرضا من الأحساء، وكاتب هذه الصفحات. ومن أبرز الحاضرين السفير اللبناني في مصر، وكان حضوره تقديراً للدكتور أحمد درويش، لأنه ألف كتاباً صغيراً عن خليل مطران (ت 1949م)، وهو ـ كما يعرف الجميع ـ شاعر لبناني متمصر. وكان السفير اللبناني ينعته في كلمته بشاعر القطرين، في حين أن لقبه الأخير شاعر الأقطار العربية، وحضر كذلك مندوب عن السفير العُماني؛ لأن الدكتور أحمد درويش قضى عشر سنوات أستاذاً في جامعة السلطان قابوس، وأسهم بكثير من الأعمال الثقافية والأدبية طوال إقامته هناك. وكان من المتحدثين الدكتور محمد الربيع، استعرض حياته وعمله في المملكة، والأستاذ فاروق شوشة، وهو متحدث بليغ، ارتجل كلمة نالت إعجاب الحضور. وقدمتُ فقرات من البحث الذي أسهمت به في تكريمه، ونشرته مجلة الجزيرة الثقافية في ثلاث حلقات. بعد إلقاء كلمتي دعاني الأستاذ فاروق شوشة وكان بجانبي لزيارته في المجمع: وقد سعدت بثنائه على كلمتي لغة ومضموناً، وهو عضو في مجمع اللغة العربية، ويشغل منصب الأمين العام فيه، ورئيس لجنة النشر، وصاحب برنامج (لغتنا الجميلة) الذي انطلق من إذاعة القاهرة في الأول من سبتمبر (أيلول) عام 1967م، ولا يزال كما أخبرني، وكنا نتابعه يوم كان المذياع وسيلة السماع الوحيدة.
قسم الأدب - كلية اللغة العربية بالرياض