- القراءة الاشتباكية للمفهوم
حينما يحاول المفكر قراءة الواقع، فإنه لا يقرأ الواقع من خلال مفهوم واحد، بل لابد له من حشد عدة مفاهيمية لمواجهة الواقع، لأن الواقع مركب وغني ومتعدد ومتشابك، فلا يقبض عليه بالمفهوم الواحد. وهنا يأتي السؤال: إذا كنا نقرأ الواقع بمجموعة من المفاهيم، فما طبيعة العلاقة بين هذه المفاهيم؟
لكي أجيب عن هذا السؤال، لابد أن نفهم كيف يختلف الفكر المعاصر عن الفكر في ما سبق؟ أنقل نصًا لعلي حرب يوضح لنا تحولات الفكر:»من حيث الموضوع تحاول الفلسفة النزول من سمائها المتعالية إلى أرضها المحايثة، كان الفيلسوف يهتم، فيما مضى، بالقضايا الكبرى، والمسائل المجردة، والقيم العليا، كالبحث عن السبب الأول وواجب الوجود، أو التطلع إلى مثل الحق والخير والجمال، أو النظر في العقل المحض، والأنا المتعالي، والأمر الكلي، ومن ذلك كان ينتقل إلى الفردي والجزئي والعَرَضي، وعلى نحو يؤول إلى اختزال الحدث، أو إلى قمع الرغبة والهوى، مع أن شيطان العقل يكمن في التفاصيل والأهواء والوساوس.
ثمة اتجاه معاكس يشهده الدرس الفلسفي منذ عقود، يتمثل ذلك في اقتحام مناطق كانت مستبعدة من جانب العقل الأكاديمي، أو افتتاح حقول ومساحات جديدة تتشكل من الاهتمام بمفردات الوجود الحي والمُعاش، اليومي والعادي، بنبضه وتوتره، بمعاناته ومكابداته، بالتباساته ومفارقاته، بمآزقه وأفخاخه، ومن الوجود اليومي، بتفاصيله وجزئياته، تتم العودة إلى مسائل الوجود والقضايا الكبرى، لإعادة التفكير فيها وشحنها بالمعنى، بعد أن جفّت ونضُبت، وباتت تحجب وتزيف أكثر مما تكشف وتنير».
هذا التحوّل في قضايا الفكر الذي يصفه علي حرب، من القضايا الكبرى إلى الصغرى، لم يمَس فقط جانب الموضوعات، وإنما مسّ أيضًا بنية الفكر نفسه، فالفكر سابقًا كان منظوميًا/كليًا، يؤسس للرؤى الكونية، أما الآن فالفكر لم يعد منظوميًا يتأسس على ثنائية المركز والأطراف، بل أصبح شبكيًا/جزئيًا/متشظيًا، فلم يعد في الفكر مفاهيم مركزية تنظم حركته، بل أَضحى الفكر مجموعة من العناصر تتواشج في ما بينها، هي التي تعطي قوام الفكر.
من خلال هذه المقدمة نستشف نموذجين لعلاقة المفاهيم بعضها مع بعض، نموذج العلاقة الطولي أو بتعبير آخر: المنظومي، وهو الذي تكون فيه مجموعة مفاهيم حاكمة وناظمة للمفاهيم الأخرى، كما المركز والأطراف، أو القطب والمدار، كما تحكم فكرة عالم المُثُل في فلسفة أفلاطون، أو أصالة الوجود في فلسفة ملا صدرا (هذه أمثلة تمثل حالة الفكر سابقًا)، النموذج الآخر هو نموذج العلاقة الأفقي، أو بتعبير آخر: الشبكي، وهو الذي لا تحكم فيه مفاهيم على مفاهيم أخرى، بل تتفاعل وتتشابك وتتواشج بعضها مع بعض، كما في فلسفات كل من نيتشه ودريدا وفوكو (هذه الأمثلة تمثل الفكر المعاصر)، وهذا النموذج الثاني، هو ما يتبنّاه العلي في قراءته للمفاهيم.
فهو بعد أن ينقل كلام أدونيس في طريقة نظره للتراث، يعقّب العلي:»هذه الفقرة من كتاب (صدمة الحداثة) وصفها الأستاذ نصر أبو زيد في بحث من أكثر البحوث عمقا وموضوعية.. بأنها ((نظرية ديناميكية للتراث))، وأنا أعتقد أنها نظرة تجزيئية قاصرة، لأنها حاولت سحب مقاييس الحاضر على الماضي أولاً، وهو نفسه موقف إسقاط الماضي على الحاضر. وثانيًا هي التي جعلت الثابت والمتحول ظاهرتين منفصلتين عن بعضهما. لقد استنفر أدونيس كل قدراته البلاغية والذهنية للبرهنة على ذلك، ولكنه وقع في ما لابد أن يقع فيه، وقع في أنه جعل التراث، خطين متوازين لا يلتقيان مهما امتدا، لقد وقع فيما يمكن تسميته بـ((التوازوية))، وهي نظرة عاجزة تمامًا عن رؤية جينات المتحول في الثابت، وقسمات الثابت في المتحول.
إن التراث ليس مجموعة من الربوات ينظر بعضها إلى بعض دون أن تجرؤ إحداها على التداخل مع مقابلتها، بل هو مجموعة من الموجات في كل الزمان، إن لقاءها معًا هو الذي يكون البنية العميقة للأمة ويلد التكوين النفسي المشترك.
إن نظرة أدونيس هذه ليست نكرانًا لتداخل التراث وتأثير بعضه في بعض، بل هي نفي لكل المؤثرات التي أفضت به إلى هذه الصيرورة دون تلك، لقد أصبح التراث على يد هذه الفقرة نتاجًا ثقافيًا مجردًا عن أي تأثير روحي أو اجتماعي؛ لأنها جعلت التراث الروحي وحده، والعاطفي وحده، فأصبح التراث مجموعة من الجُزُر كما هو عبر الجابري».
لا أظن أني بحاجة للتعليق على هذا الكلام، فرؤية العلي الاشتباكية للثابت والمتحول أوضح من أن توضح، سأتناول نموذجين آخرين ذكرهما العلي، يبرزان اشتباك المفاهيم وتواشجها بشكل أوضح.
النموذج الأول: ما هي طبيعة الجمال؟ هل الجمال «موضوعي» أي خصيصة من خصائص الموضوع كما يرى المعتزلة؟ أم الجمال وليد الذات ونابع عنها، كما يرى الأشاعرة؟ يجيب العلي:»كلتا النظرتين هاتين تعزلان الموضوع عن الذات، والذات عن الموضوع.. وتهملان بعدًا ثالثًا من أبعاد المسألة، وهو ما أسميه: (البعد التاريخي). هنالك ثلاثة أبعاد للمعرفة الجمالية:
1- الجمال في الواقع ذاته، أي ما يترك في الإنسان شعورًا روحيًا بالنشوة.
2- انعكاس الموضوع الجمالي في الواقع، أو الفن، في وعي الإنسان، أ ي الوعي الجمالي.
3- موقف الإنسان من الواقع.. والواقع الجمالي.
موقف الإنسان من الواقع الجمالي، هو ما أسميه: التاريخية، وأعني بها ما عبر عنه المفكر العروي بـ(التاريخانية) التي أوضحها بقوله:»التاريخانية اتجاه يرمي إلى تفسير الأشياء في ضوء مسارها التاريخي».
الجمال في الطبيعة هو أساس الإحساس الجمالي، وحين «بدأ البشر يعرفون الجمال الطبيعة بدؤوا - في الوقت نفسه- يخلقون -ماديًا وروحيًا- جمالاً على نهج جمالها، وعلى حسب تطورهم الفكري والاجتماعي».
من هنا نصل إلى معرفة أن الإدراك الجمالي يتولّد من الذات والموضوع معًا.. وأن التطور الروحي، أو التاريخ الجمالي، هو الذي يحدد عمق إدراك هذا الفرد، أو ذاك للنتاج الإبداعي وعدمه، وشمول هذا الإدراك، فالإدراك إذًا هو ما أهملته نظريتا الجمال السابقتان.. فهذه أهدرت فعل الموضوع، وتلك أهدرت فعل الذات.. وذلك لإهمال دور التاريخ في نمو المعرفة الجمالية».
محمد سعيد الفرحان - كلية العلوم الطبية- جامعة الملك فيصل