ليس هناك أشد حيرة وضياعاً وتشتتاً حين تكون بين أمرين عليك أن تختار أحدهما وأمرّ من ذلك لو يكون اختيارك غير صحيح!! وأنكى منه حين يكون القلب من يختار وقد بلغ من الحب ثمالته، فولّادة بنت المستكفي التي أخذت من الإسبان البشرة البيضاء والشعر الأشقر والعيون الزرقاء!! حتى لا تخالها إلا من بنات الفرنجة أو القشتاليين ولم تمتزج بأبيها العربي عدا الاسم إلا اللغة والأدب والشعر وحلو الحديث الذي كان لا بد أن يكون خلاصة ذلك صالوناً أدبياً يؤمّه رجالات العلم والأدب وكأنّ ذا الرمة قد عنيها في حديثها بقوله:
ونلنا سقاطاً من حديثٍ كأنه
جنى النحلِ ممزوجاً بماء الوقائعِ
فمن فيها كل ذلك لا جرم في أن يهيم بها ابن زيدون وغيره عشقاً ودلالاً! ويحق لها أن تختار كيفما تشاء فهي أجمل من بثينة جميل ومن ليلى العامرية صاحبة قيس وعزّة كثيّر! بل قد بزّت جميع صويحبات الشعراء ولو كانت في زمانهم لما احتارت قلوبهم في اختيارها! يقول المقّري في نفح الطيب (كانت واحدة زمانها المشار إليها في أوانها حسنة المحاضرة مشكورة المذاكرة) ولا ينقص من هذا الكلام ما قاله ابن بسام في ذخيرته وغيره من مؤرّخي الأندلس ولا شك إذا عُدّت النساء كانت ولّادة من أوائلهن وإن تناقضت الأقوال فيها بين العفاف والحشمة وبين المجاهرة واللا مبالاة ومما زعموا أنها كتبت على إحدى ثيابها بيتين من الشعر تصرّح فيهما بالمنكر والابتذال، والرأي أن ذلك من الوضّاعين الأفاكين ولذلك قال ابن بسام؛ (زعموا) والزعم قريب الكذب! وترجيح ذلك أولى! فلا يعقل بشخصية تميّزت باللسان والمنطق وحب الناس ناهيك عن الجمال الفاتن الرائع في أن تكون مبتذلة تصعّر خدّها بهذه الصورة السخيفة! ولكن من استهتار ابن زيدون المخزومي بمكان، حيث أراد أن يمتحنها في ذلك فكان كبراقش حين جنت على نفسها! فأحب أن يغيظها بجارية مغنية سوداء وكأنه لم يسمع بيت شاعر المشرق الذي يقول:
فلا تأمنن أنثى حياتك واعلمن
أن النساء ومالهن مقسّم
فلو لم يكن إلا قلبها لكفى! وليست هي ومالها فحسب!
وإياك إياك أن تجرب الأنثى في امتحان كهذا! فكانت من البلاغة والإجادة أن قالت له:
لو كنت تنصف في المودة بيننا
لم تهو جاريتي ولم.. تتخيرِ
وتركت غصناً مثمراً بجماله
وجنحت للغصن الذي لم يثمرِ
ولقد علمت بأنني بدر السما
لكن ذهبت لشقوتي بالمشتري
فكان البديل المنافس جاهزاً بل بدلاء لو أرادت!! ولا يقلُّ عن ابن زيدون مرتبة أو حظوة ألا وهو الوزير الشاب أبوعامر بن عبدوس وإن كان أقل ثقافة من ابن زيدون إلا أن الغيرة والحب لا يعترفان بذلك أبداً.
فهام بها الاثنان عشقاً وحباً وتنافسا على الفوز بقلبها والحظوة عندها تنافس من لا يرضى إلا بعقدٍ يبرمه صاحب الأنكحة حتى ولو كلفه ذلك ماله وجاهه ونفسه التي بين جنبيه! وربطت على عقليهما كأُخيّة لا يقطعها المهر الأرن! برباط العشق والود والحب والوله والتمنع والترفع! ومع تقلبات الزمن وصروف الليالي أُودع أبو الوليد ابن زيدون السجن فخلا الجو لأبي عامر بالانفراد بمن يحب وعلى أن قلب ولّادة كان يميل لا بن زيدون إلا أنها كانت قانعة بابن عامر وهو بعد وزير! وفرصة بأن تغيظ من غاظها من قبل! ورسالة ابن زيدون الهزلية التي تضمنت رد ولّادة على أبي عامر بالتهكم والاستهزاء عليه وعلى طلبه إنما هو استعراض أدبي وثقافي من ابن زيدون وكأنه يريد المفاضلة عند ولّادة مع أبي عامر ويشعرها بذلك بأفضليته وأحقيته وأن ما بينه وبين أبي عامر بون شاسع من الرزانة ورجاحة العقل والمستوى الثقافي! وإن كانت الرسالة مليئة بالسجع المترادف والممل أحياناً إلا أنها تعتبر قطعة أدبية ثريّة تعكس المظاهر الأدبية والثقافية في الأندلس ذلك الوقت وما وصلت إليه من محاكاة المشرق ومجاراة كبار المثقفين والأدباء كالجاحظ! وهي بعد ترسم بُعداً ثقافياً وأدبياً ومقدرة وبراعة لعقلية ابن زيدون ومهارته في صياغة النثر بعبقرية بجانب موهبته في الشعر! ولم يستسلم ابن زيدون حتى في منفاه في إشبيلية وظل هوى ولّادة يراوحه كل حين وعشقها في القلب يبين وغيظه على أبي عامر قد بلغ زُباه! ولكنّه ظل يروض قلبه على بُعدها، فلم يهنأ له عيش ولم يهدأ له بال وصورتها لا تفارق خياله وأخبارها تتلقفها مسامعه فقال معاتباً معتذراً نادماً على ما فرّط:
أغائبةٌ عني، وحاضرةٌ معي،
أناديك - لماعيل صبري فاسمعي!
أفي الحق أن أشقى بحبك، أو أرى
حريقا بأنفاسي، غريقا بأدمعي؟
ألا عطفة تحيا بها نفس عاشقٍ
جعلت الردى منه بمراي ومسمعِ؟
صليني بعض الوصل، حتى تبيني
حقيقة حالي، ثم ما شئت فاصنعِ
ومن المفارقات أنها لم تتزوج الاثنين وظلت القلوب بلا مأوى! بل شغلها حبهما والشعر كحال أصحابنا الشعراء الغزليين الذين لم يظفروا بمن أحبّوا وقالوا فيهن أجمل ما قيل من الشعر الذي فرّق بينهم وها هي ولّادة التي ظلت تراوح بين قلبين ولم تظفر بواحد منهما ماتت دون أن تكون على ذمة رجل! إلا أنهم تركوا لنا حكاية تعتبر من أجمل حكايات أهل الأندلس في الحب والغزل!!
زياد بن حمد السبيت - الأحساء