ألمانيا؛ هذه المفردة التي لا تُحْمَل إلى ذهني إلا حالة شذرية فلسفية، تتجدد كلما أعاد التاريخ نفسه، أو التف عليها. لا معسكر أوشفيتز، ولا الهولوكوست، ولا حتى البي إم دبليو! وكفانا العم الطيِّب (غوغل) عناء إعادة الكلام عن ألمانيا جغرافيًا، وتاريخيًا، واقتصاديًا، وما شئتَ وإلخ..
لم أسرف في أي منتج ألماني سوى توظيف الذات في صنع الرؤية الخاصة؛ نتيجة الملاحظة الطويلة في الفلسفة، وبعضًا ضئيلًا من شِعْر نيتشه مترجمًا إلى العربية، أو إلى الإنجليزية من الألمانية ولغات أخرى. إلاَّ أنه حطَّ بين يدي كُتيِّب صغير، بطول قنينة الماء التي بجانبي تمامًا، سعة 0.33 لتر؛ (وجه في الغيوم): ديوان شِعْر صغير، للشاعر الألماني: (كلاوس رايشرت)، من إصدارات هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، مشروع «كلمة» للعام 2012. والذي ترجمه المترجم الأردني (مصطفى السليمان). رايشرت المترجِم أولًا، والشاعر ثانيًا؛ حيث يعتبر من أهم من ترجم لشكسبير. الذي يقول أيضًا بشأن العربية، بأنه: «مستمر في حب اللغة العربية، وأهلها، وصحاريها، ووديانها، وثقافة شعوبها». وإن ظلِّت الترجمة-أحيانًا- أحد عوامل امتصاص الشِّعْر (نفاذًا) مهما كانت لا تقل وثاقة عن نفاذية النص الأصلي، إلا أنها لا يمكن أن تخفي إشعاعه الذي أعرفه كشاعرة به أولًا، ومترجمة له وحوله ثانيًا.
في هذا الكُتيِّب/ الديوان، نصوص مثلها مثل نصوص أي شاعر لا ينفصل عن ذاته، ومحتويات العالم حوله، ومقتنياته الفكرية، والثقافية. لا يمكن أن أقرأها من ناحية نقدية، ولا من ناحية انطباعية جاهزة، كحكم سهل وسريع. إلا أنها مليئة بألمانيا، والشرق، حتى من بين السطور وخلفها. مرممة بالغيمات، والبياض، والطيور، والأشجار؛ مثيرة للمطر ومنعشة كالهواء المصاحب له. وإن قَلَّمتها كآبة الشاعر، وغربته الأزلية، وانقباضه المزمن، وشجاره مع الوجود والعدم. الشاعر الذي لا يُفرِّطُ في الأيدي العاجلة، ويشعرُ دائمًا بالمطر.
« يلاحقنا الشعاعُ الأخيرُ من العدم
إلى حيث نؤوب بصمتٍ وتأنٍ..»
و يقول في لحظة وجودية، وتساؤل يقررُ نفسه:
«ماذا سنفعلُ كي نستعيد الزمن
نحن الذين لا نُفرِّطُ في الأيدي العاجلة»
ولأن للشاعر غربة كلاسيكية منذ الأزل، فهو يقررأيضًا، في مقطع من قصيدة: «مطر الكلام»:
«أنا الغريبُ
مثل قطيع الأغنام الأبيض الذي
يعبر الصحارى الشاسعة»
ومن قصيدة ديالكتيكية أخرى:
«لو كان ثمة قناص على شجرة
سنغالي أو مغربي
لما عاد جدي يغني
ولما كنتُ أنا
ولما رأيتُ ما رأيتُ
بهذا القدر من الفطنة!»
ومرورًا بالتاريخ أيضًا، فقد قال عن مدينة الرها:
«لم تترك خلفها غير حجارة وأنبياء
ومتاجر هواتف محمولة
تعصفُ بها الريحُ دائمًا
كي لا ينساها من يقف على بواباتها العالية»
لا أريد أن أجعل من هذه الإلماحة السريعة مجرد نقل للقصائد، بقدر ما أريد أن تكون ترويسة فيما يخصني على الأقل؛ لبدء لحظة جادة مع الأدب الألماني عمومًا، والشِّعْر تعيينًا؛ حيث لا تعترف آداب العالم بصور منابتها النمطية في اعتبار الآخر، ولا بحدود اللغات؛ فوحده الشِّعْر ينفذ إلى الأرواح والحدود بلا جمْرَكة.
نورة المطلق - الرياض