1- طه حسين وناقد الحداثة:
بدأ الغذامي - مثل طه حسين - شاعراً، ومثله أيضاً تخلى بعد فترة عن هذا المسار بعدما اكتشف أن تميزه الحقيقي في ممارسة النقد؛ ولكنّ خيوط التشابك بين الرجلين أعقد من هذا التشابه العارض، إذْ يروي الدكتور عبدالرحمن السماعيل أنه بعد صدور كتاب الغذامي: الخطيئة والتكفير أهدى نسخة منه للناقد المصري المعروف شكري عياد، وحين قرأه قال له: إنه يذكِّرني ببدايات طه حسين، وما كان يثيره من جدل بين القرّاء، وهذا الربط المبكّر بين بدايات الغذامي وبدايات طه حسين تكرر كذلك عند الدكتور فهمي حرب الذي حذّر الغذامي من العنت الذي سيلاقيه جرّاء كتابه؛ مثلما حدث مع طه حسين بسبب كتابه عن الشعر الجاهلي، يروي الغذامي هذه الحادثة في كتاب: حكاية الحداثة، وفي الكتاب نفسه يورد كذلك تساؤل محمد نصر الله عن سبب غياب نموذج طه حسين في السعودية ؟ هل كان الغذامي في هذين الموضعين من كتابه يفكِّر بصوت عالٍ محاولاً عقد مقارنة بين الكتابين والشخصيتين ؟
لا أظن أن الغذامي كان بعيداً عن تمثل هذه المقارنة كلما آذته أشواك الطريق، ولأمرٍ ما فإنه حين وضع كتابه: حكاية سحارة الذي جمع فيه تكاذيب المخيلة لم يجد سوى كتاب طه حسين: مِرآة الضمير الحديث؛ ليقتفي أثره؛ مُشيداً في صدر سحارته به، وبرسائله الرمزية المنطوية على نقد لاذع لبعض الظواهر المجتمعية، ثم عاد الغذامي من جديد ليقرأ: مرآة الضمير الحديث على مهل قراءة نقدية وتحليلية؛ مخصصاً لهذه القراءة فصلاً مستقلاً ضمن كتابه الآخر: تأنيث القصيدة والقارئ المختلف.
هذه التقاطعات بين الشخصيتين ما الذي توحي به حين تتكرر وتتواتر؟ أهو الشعور المشترك بالغربة؟ بمرارة الاستقطاب؟ بفداحة التجديد؟ يبقى التنويه في آخر الأمر بأن الوقوف عند بعض أوجه التماثل بين الشخصيتين لا يعني التطابق، ومن الطبيعي أن الغذامي لا يوافق طه حسين في كل آرائه، وبخاصة تلك الآراء التي شابها شيء من الاندفاع في بعض كتبه المتقدمة؛ مثل: مستقبل الثقافة في مصر.
2- في البدء.. كانت الثقافة:
ما يزال الغذامي يكرر أن الرواد الأربعة للحداثة الشعرية لدينا هم: محمد العلي، وسعد الحميدين، وعلي الدميني، وأحمد الصالح، ومع أن هذا هو ما يؤكده الرصد التاريخي؛ فإن الإصرار المستمر على الجمع بين هؤلاء الشعراء؛ دون التذكير بالفروق الفنية بينهم يشعر القارئ بتقارب مستوياتهم الإبداعية، كما أن تركيز الغذامي على تحليل قصائد الحميدين المرة تلو الأخرى يُوهم المتابع بتميزه الفني بين هؤلاء الرواد، والواقع أن الفروق بين هؤلاء الشعراء الأربعة كبيرة، وعلى الأخص بين علي الدميني الذي يمثل قمة الاستواء الفني: رؤية وتشكيلاً، وسعد الحميدين الذي يُعد أضعف هؤلاء الرواد من الناحية الفنية، وكنتُ قد تحدثت سابقاً وبالتفصيل عن جوانب الضعف في الرؤية والصياغة عند الحميدين (راجع مقالة: انكسار القارئ أمام النص الحداثي المفتت، الجزء الثاني)، ولعل الشاعر محمد الثبيتي الذي جاء لاحقاً هو أقرب شعراء الحداثة لمستوى علي الدميني من بين الشعراء الروّاد.
لا شك في أن سعد الحميدين مثقف معروف، كما كان له أثر كبير بموقعه وإسهاماته في الحراك الثقافي داخل المجتمع؛ ولكنّ الحديث هنا ينحصر تحديداً في إنتاجه الشعري، والمقصود: أن اشتمال نصوص الحميدين على رؤية شعرية طليعية ـ وإن كانت تبدو مشوّشة في الغالب ـ لا يسوِّغ مساواته بالشعراء الذين يجمعون بين الرؤية الثقافية العميقة والصياغة الشعرية المتمكنة، إلا إذا كان الناقد يهتم بالمنحى الثقافي في النص والشاعر بما يتجاوز في أحيان كثيرة اهتمامه بالجوانب الفنية والإبداعية فيهما، أضف إلى هذا أن سعة التأويل عند الغذامي - وهي سمة بارزة جداً في نقده الأدبي، ثم الثقافي - تجعله قادراً على التعامل مع النصوص المفككة المليئة بالفجوات، إذْ تعطيه هذه النصوص مساحة أوسع لإعادة كتابتها من جديد.
ومنذ كتابه الأول: الخطيئة والتكفير كان الغذامي هو الباحث المخلص عن الأنموذج الثقافي، تجد هذا ابتداء في المقدمة النظرية للكتاب؛ عبر الاحتفاء الشعري المثير بالفارس: رولان بارت، و»بفتوحاته» النقدية، ثم في اختيار أنموذج فكري حضاري تستند إليه القراءة النقدية، وهو فكرة: الخطيئة والتكفير، بالتوازي مع انتقاء الشاعر المثقف: حمزة شحاتة؛ ليكون بشعره وحياته هو المجال التطبيقي للدراسة.
ويعود الغذامي في كتابه: الكتابة ضد الكتابة، فيؤكد اهتمامه بالمنحى الثقافي في النص الشعري أكثر من الجانب الفني الإبداعي، إذْ يعرض أنموذج المرأة عند ثلاثة شعراء سعوديين ينتمون لمدارس شعرية متباينة، وهم: حسين سرحان، وغازي القصيبـي، ومحمد جبر الحربي، فيختار قصيدة لسرحان تمثل أنموذج المرأة/ الموت، وقصيدة لغازي تظهر فيها المرأة مرادفة للحياة؛ ولكنها حياة صامتة بلا إرادة أو فعل - بحسب رؤية الغذامي - وقصيدة للحربي تنتفض فيها المرأة لتستولي على المعنى والفاعلية معاً، ومن الطبيعي أن هذا التوجيه الدلالي للقصائد يوحي بتفضيل ثقافي غير مباشر لقصيدة الحربي، ولم تُرضِ هذه القِسْمة القصيبي، ولأن الغذامي أعطاه حق: الكتابة ضد الكتابة، فقد انتقد في الكتاب نفسه هذا التحيز «الحداثي» في انتقاء القصائد أولاً، ثم في التوجيه النقدي لها، وكم كان غازي مؤثِّراً وهو يدافع بحرارة عن قصيدته الأثيرة: أغنية في ليل استوائي التي جندلتها آليات النقد الحديث، فسقطتْ صريعة التحيز للأنموذج الثقافي، وقد كانت قصيدة فاتنة بإيقاعها، وإحساسها، وإحباطها الكهولي، ولازمتها الآخذة بمعاقد الأنفس، والمنفتحة على ما شاء لها النقد من تأويلات:... فقولي إنه القمرُ !
3- سحارة الغذامي..
يومَ كانت الأشياء تتكلم:
إذا كان العقاد أعاد اكتشاف ابن الرومي، وأدونيس أعاد إحياء كتاب المواقف للنفّري؛ فإن الغذامي هو باعث فنّ عتيق في أدبنا العربي، وهو: تكاذيب الأعراب الذي عقد المبرّد في كامله باباً مستقلاً له، تناول الغذامي هذا الفن أولاً ببحث نظري متعمق تضمنه كتابه: القصيدة والنص المضاد تحت عنوان: جماليات الكذب، وفيه مضى يؤسس لفنّ التكاذيب؛ بوصفه جنساً أدبياً، ثم وبموازاة ذلك راح يكتب حكايات متسلسلة من سحارته العجائبية؛ متكئاً على فنّ التكاذيب التراثي، وعلى تقنية: الواقعية السحرية المعاصرة.
لكن ما علاقة هذا الكتاب الأدبي بموضوع: الحداثة الشعرية ؟.. لنقل: إن الغذامي آثر أن يروي حكايته مع الحداثة بطريق الرمز في السحارة أواسط التسعينات قبل أن يجرؤ بعد ذلك بعشر سنوات على أن يرويها صريحة في كتابه اللاحق: حكاية الحداثة، وهكذا فإن ما أضمره الغذامي وصعّده تخييلاً وترميزاً في: حكاية سحارة عاد وأظهره صريحاً مكشوفاً بأحداثه الواقعية وشخصياته الحقيقية في: حكاية الحداثة، وللقارئ أن يستنتج العلاقة الوثيقة بين هذين الكتابين بناءً على هذه المعادلة الافتراضية: كأن فنّ التكاذيب عند الأعراب الذي أعادت إحياءه سحارة الغذامي هو احتجاج رمزي على هيمنة النسق المضمَر على الثقافة: إنتاجاً وتأويلاً على امتداد العصور؛ وصولاً إلى العصر الحديث، وهي الهيمنة التي كشفتها بوضوح: حكاية الحداثة في مجتمعنا المحلي، وخذ إن شئت من السحارة الحكاية الخيالية الطريفة عن رفض المحكِّم العلمي أطروحة عبدالقاهر الجرجاني للدكتوراه، والأسباب «العلمية» التي ساقها لتسويغ هذا الرفض، ثم قس عليها ما ترى من قصص واقعية معاصرة حكى طرفاً منها في كتابه: حكاية الحداثة، كان على الأعرابي إذن أن يتكاذب مع نفسه للهروب من سطوة النسق؛ قبل أن يقرر مواجهته وتشريحه بكل وضوح، كان عليه أولاً أن يجعل الأشياء تتكلم، قبل أن يجرؤ أخيراً على الكلام !
4ـ حكاية الحداثة.. حكاية الأنموذج:
في بعض الأحيان تودّ لو كان الغذامي أقلّ استناداً إلى خبراته الذاتية وتجاربه الخاصة عند تفسيره للظواهر الإنسانية والثقافية العامة ذات الامتدادات الواسعة والمتشابكة، ويكاد لا يخلو كتاب من كتبه من الاتكاء على تجارب ومشاهدات فردية؛ للوصول إلى استنتاجات فكرية شاملة، وتبرز هذه السمة بخاصة في كتابه المثير للجدل: حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية، والقارئ لهذا الكتاب سيجد أن البؤرة التي تُغزل فيها خيوط هذه الحكاية الممتدة امتداد الوطن تتمثل في الغذامي نفسه، فبكتابه: الخطيئة والتكفير دُشّنت هذه المرحلة الخطيرة من مراحل التطور الفكري والمجتمعي في المملكة، وبالمعارك والخصومات التي دارت حول شخصه ونتاجه تسلسلت فصولها وأحداثها؛ أي أن الكتاب بعنوانه ومضمونه يجعل حكاية الغذامي مع الحداثة هي المعادل الموضوعي لحكاية الحداثة في السعودية على وجه الإجمال، والأهمّ من هذا أنه يصنِّف التيارات والأشخاص ويحدد طبيعة النسق الثقافي المسيطر عليهم بناءً على طبيعة المواقف التي اتخذوها تجاهه شخصياً؛ حتى لو كان لهم إسهام فاعل ومؤثر في حركة النقد الحداثي؛ كما هو الحال مثلاً مع سعد البازعي، وكذلك مع سعيد السريحي؛ وإن كان بقدر أقل مرارة وحِدّة، وكان بإمكان الغذامي أن يتجاوز هذا الخلل المنهجي في الكتاب بتغيير بسيط في عنوانه؛ بأن يجعله: حكايتي مع الحداثة، وليس: حكاية الحداثة في المملكة، وتغيير العنوان على هذا النحو لن يؤثر في المكانة الخاصة التي كانت للغذامي وسط ذلك الحراك؛ إذْ يكاد الجميع يقرّون بما كان له من دور ريادي في تلك المرحلة.
تبقى ظاهرة أخرى لافتة للنظر في الكتاب نفسه، وهي تتبع الغذامي الحثيث للإساءات التي وجِّهت له، ورصده لصنوف الإيذاء التي تعرض لها، وبتوثيق دقيق يتجاوز حكاية الأخبار إلى إرداف الكتاب بملحق يتضمن نماذج مصوّرة من الخطابات والرسائل الكيدية، والتعليقات والرسوم المسيئة، وإذا كان كتّابنا يميلون عادةً إلى تجاهل مثل هذه الإساءات، أو الاكتفاء بالإشارة العابرة لها؛ لما تسببه لهم من ألم نفسي؛ فإن الغذامي يتتبع هذه الإساءات بهِمّة باحث محايد، ويعيد الإشارة إليها مراراً وتكراراً، وقد امتدت هذه الظاهرة لديه فشملت بعض كتبه اللاحقة؛ وبخاصة كتابه: ما بعد الصحوة، ثم تبدت هذه السمة واضحة في تغريداته المباشرة على (تويتر)، فهو لا يتجاهل التعليقات المغرِضة، أو المستفزّة، بل يواجهها، ويدلّ متابعيه عليها، والسؤال الآن: لماذا ؟
لا ريب أن هذا التوجه ينمّ عن قدْر كبير من الشجاعة، والوضوح، والمقدرة الكبيرة على القبول بالرأي المخالف، والاستماع إليه مهما كان قاسياً؛ ولكنه قد يوحي أيضاً بميل عميق نحو المشاركة العاطفية مع الآخرين، فهو يتقاسم مع قرّائه ومتابعيه أدقّ مشاعره، ويبوح لهم بأخفى خواطره وانفعالاته، وهو يؤكد لهم في كل مرة أنه مع كل هذه الإساءات التي تعرض لها ـ وهي بالمناسبة لاذعة جداً ـ فإنه سيتسامح مع أصحابها؛ وكأن هناك تلذذاً دائماً بإظهار العفو بعد الإساءة، وارتياحاً مستمراً للكشف عن الصبر والتجاوز بعد الخطأ، باختصار: كأن هناك رغبة مثالية عميقة في تحقيق الأنموذج وتجسيد القدوة أمام الآخرين.
د. سامي العجلان - الرياض