هل يستطيع أحد الباحثين أو المهتمين بالثقافة المعاصرة وضع معجم للألبسة أو المأكولات الشعبية أو زخرفة البيوت أو التحف القديمة أو الحديثة أو حتى قصات الشعر وأنواع مظاهر الناس؟ أشك في ذلك، لأن لغتنا المعاصرة مع بالغ الأسف تفقد مواكبة ما يعيشه الناس، ويستخدمونه في حياتهم اليومية. وحتى لو وضع الباحثون عدداً من المعجمات المتصلة بحياة الناس وأدواتهم التي يستخدمونها، دون أن تندرج في تواصل الناس، وتشيع على ألسنتهم، فلن يكون لها الجدوى في ضخ الحياة في عروق اللغة، وإعطاء الناشئة ثقة في قدرتها على التعبير عما يجول في خواطرهم بدقة لا تعوزهم إلى لغات أخرى أو شروحات أو سوء فهم في حالة كون النصوص مكتوبة.
يصدّع رؤوسنا كثير من المدافعين عن مكانة اللغة العربية بين لغات البشر، ويطلقون الأوصاف الفضفاضة على معجم اللغة دون تمييز بين ما كان منه غنياً في عصور مضت، وما أصبح شحيحاً في عصرنا الحاضر. وكنت قد عرضت في دراسة قمت بها عن مستوى استخدام اللغة في التعبير الدقيق عما يريده المتواصلون بها بعضاً من الأدوات المعتادة في حياتنا اليومية (ليست أيضاً من أدوات التقنية الدقيقة التي ربما يكون الفقر فيها أشد). ووضعت تلك الأدوات على مدخل قسم اللغة العربية في الجامعة، وطلبت من الزملاء أن يذكروا لي أسماء هذه الأدوات بالعربية في كلمة واحدة لكل أداة، وليس بشرح لوظيفتها أو إضافتها إلى المجال الذي تستخدم فيه. بعضها أدوات مكتبية، وأخرى أدوات بسيطة تستخدم في المطبخ أو المكاتب لإعداد القهوة؛ فكان الفشل ذريعاً. فقد عجز أساتذة قسم اللغة العربية عن تسمية بعضها، وأطلقوا أسماء متباينة، وليست في كلمات مفردة على بعضها الآخر. كما لجأوا إلى الشرح في تسمية بعض الأدوات التي يستخدمونها يومياً، وليس لها اسم لديهم. وإذا كان هذا وضع هذه الطبقة، فما بالك بأوضاع آخرين ليست لهم صلة مهنية باللغة؟
وعودة إلى ما طرحته في البداية، وإلى عنوان المقال، لست بحاجة إلى توضيح مدى قدرة لغات بشرية معاصرة على مواكبة ما يستجد من ظروف الحياة وعناصر العيش ووصف العادات والمظاهر المستجدة لمن يعرف أياً منها، لكن للبقية أشير إلى ما تتصف به هذه اللغات الحية في وصف أحوال الناس بدقة وألوانهم ومظاهرهم، والتمييز بين لباسهم وأشكال وجوههم وقصات شعورهم إلى غير ذلك من السمات. ففي كل لغة أجنبية، خاصة من اللغات الأوربية، أتصفح بعض نصوصها يصيبني القهر مما تعاني منه العربية في هذا المجال. إذ أجد في وصف الوجه مفردات متعددة حسب شكل إطاره وحدة ملامحه، وفي أوضاع الشعر أيضاً صفات أخرى وفقاً لطبيعة الشعر وطوله وتسريحته وموضع الفرقة، وفي لون البشرة كذلك حسب ما يوجد في بيئتهم من تباينات في هذا المجال، وفي وصف اللحية والشوارب بمفردات محددة بدقة ومتعارف عليها. كما هو الأمر كذلك للعينين بأوضاعهما وألوانهما وللقامة وبنية الجسد، مما يجعل مستخدم اللغة لا يعيى بوصف شخص آخر بدقة في كلام عارض أو نص أدبي، أو حتى في توصيف لدى جهات ملاحقة أمنية. وأعرف أن وضع لغتنا في بعض هذه الأوصاف قديماً كان جيداً، فيما يخص الجسد والملامح، لكنه مفقود حالياً تقريباً، ولم يُضف ما يستجد من مقومات الحياة الحديثة. فلا يكفي أن تكون لدينا في أوصاف تسريحات الشعر يوما ما: «ذيل الحصان» أو «الكعكع» (وقد تكون نسبة إلى الكعك)، مما تكون مترجمة أو مبتكرة للسخرية دون أن تكون دالة عليها بوضوح وموضوعية.
- الرياض