ذكر الفارسي أن خبر المبتدأ يكون مفردًا ويكون جملة، ثم بين أنواع الجملة التي تكون خبرًا، فقال «وأما الجملة التي تكون خبر المبتدأ فعلى أربعة أضرب: الأول أن تكون جملة مركبة من فعل وفاعل، والثاني أن تكون مركبة من ابتداء وخبر، والثالث: أن تكون شرطًا وجزاء، والرابع أن تكون ظرفًا»(1). ويقصد الفارسي بالظرف الجار والمجرور وأسماء الزمان المفعول فيها؛ ولذلك مثل للإخبار عن الأحداث بقوله: البيع في السوق، وعن الأشخاص بقوله: زيدٌ في الدار، وأما أسماء الزمان فإنما يخبر بها عن الأحداث نحو: الخروج غدًا(2).
وشرح الجرجاني علة عدّ الجار والمجرور وأسماء الزمان والمكان جملة في الخبر، قال «والرابع نحو في الدار وخلفك ويوم الجمعة، وهو الجملة من الظرف، وكون هذا الضرب جملة يقع فيه كلام من بين الجميع، وإنما كان جملة لأجل أن (في) حرف جرّ، وحروف الجر لا بدّ لها من فعل تتعلّق به؛ لأنها جاءت لتوصل بعض الأفعال إلى الأسماء نحو قولك: قمت إلى زيد، وذهبت من دارك. ولو قلت: إلى زيد أو بزيد، من غير فعل كان محالا، وإذا لم يكن في اللفظ كان مقدّرًا في النية. فقولك: في الدار، يتعلق بضمير نحو استقرّ في الدار، فإذا قلت: زيد في الدار، فالتقدير: استقرّ في الدار، وإذا قدرت استقر كان فيه ضمير لزيد فيكون الفعل مع ذلك جملة كما أنك إذا قلت: زيد استقر أخوه، كان قولك: استقر أخوه جملة من الفعل والفاعل»(3).
وليس يفهم من قول أبي عليّ ولا من قول الجرجاني أن الظرف جملة مناظرة للجملة الاسمية أو الفعلية، وليست كذلك الجملة الشرطية، وإنما أراد أبوعلي بيان أنماط من الجملة التي تأتي خبرًا. ولذلك قال الجرجاني «فقد تحصل لك أربع أضرب من الجمل وهي في الأصل اثنتان: الجملة من الفعل والفاعل والجملة من المبتدأ والخبر»(4).
ولكن الزمخشري بعد ذلك سمى الظرف جملة ظرفية قال» أنواع الخبر والخبر على نوعين مفرد وجملة. فالمفرد على ضربين خال عن الضمير ومتضمن له وذلك زيد غلامك وعمرو منطلق. والجملة على أربعة أضرب فعلية واسمية وشرطية وظرفية. وذلك زيد ذهب أخوه، وعمرو أبوه منطلق، وبكر أن تعطه يشكرك، وخالد في الدار»(5).
وإنما سمى الزمخشري الجملة الرابعة ظرفية لاقتصار الخبر فيها على الظرف حتى صار كأنه هو الخبر، وإن كان في حقيقته قيدًا على الفعل المنوي المستغنى عن ذكره، وأن لو ذكر الفعل لما صح عدّ الجملة ظرفية، نحو قوله تعالى ?وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا?[ يس-38]، فالخبر هنا جملة فعلية، وليس من فرق بين الجملتين سوى ذكر الفعل وحذفه، والذي نريد بيانه أن الزمخشري أيضًا لا يجعل الشرطية ولا الظرفية مناظرتين للجملة الفعلية والاسمية من حيث تقسيم الجملة بعامة.
ولوضوح هذا الأمر حرص ابن يعيش، أحد شراح المفصل، على أن يبين أنّ هذه القسمة لفظية، قال «واعلم أنّه قسم الجملة إلى أربعةِ أقسام: فعليّةٍ، واسميّةٍ، وشرطيةِ، وظرفيّةٍ، وهذه قِسْمَةُ أبي عليّ[الفارسيّ]، وهي قسمةٌ لفظيّةٌ، وهي في الحقيقة ضربان: فعليّةٌ واسميّةٌ لأنّ الشرطيّة في التحقيق مركَّبةٌ من جملتَين فعليّتَيْن: الشرطُ فعلٌ وفاعلٌ، والجزاء فعلٌ وفاعلٌ، والظرفُ في الحقيقة للخبر الذي هو (اسْتَقَرَّ)»(6).
وجاء ابن هشام فكان له في الجملة تصور مخالف لما عرف عند النحاة، وأخرج كلام الزمخشري من سياقه وهو (الجملة الواقعة خبرًا) فزعم أنه قسم الجملة بعامة أربعة أقسام، وابن هشام أراد جعل الجمل ثلاثًا، فقال تحت عنوان (انقسام الْجُمْلَة الى اسمية وفعلية وظرفية) «فالاسمية هِيَ الَّتِي صدرها اسْم كزيد قَائِم، وهيهات العقيقُ، وقائمٌ الزيدان عِنْد من جوزه وَهُوَ الْأَخْفَش والكوفيون، والفعلية هِيَ الَّتِي صدرها فعل كقام زيد، وَضُرب اللص، وَكَانَ زيد قَائِما، وظننته قَائِما، وَيقوم زيد، وقم. والظرفية هِيَ المصدرة بظرف أَو مجرور نَحْو: أعندك زيد، وأفي الدَّار زيد، إِذا قدرت زيدًا فَاعِلًا بالظرف وَالْجَار وَالْمَجْرُور، لا بالاستقرار الْمَحْذُوف، وَلَا مُبْتَدأ مخبرا عَنهُ بهما، وَمثّل الزَّمَخْشَرِيّ لذَلِك بـ(فِي الدَّار) فِي قَوْلك زيد فِي الدَّار، وَهُوَ مَبْنِيّ على أَن الِاسْتِقْرَار الْمُقدر فعل لَا اسْم، وعَلى أَنه حذف وَحده وانتقل الضَّمِير إِلَى الظّرْف بعد أَن عمل فِيهِ. وَزَاد الزَّمَخْشَرِيّ وَغَيره الْجُمْلَة الشّرطِيَّة وَالصَّوَاب أَنَّهَا من قبيل الفعلية لما سَيَأْتِي»(7).
وابن هشام يوهم أنّ الزمخشري يذهب إلى أنّ ثمة جملة ظرفية مؤلفة من ظرف رفع بعده فاعلًا، وما ذهب إليه ابن هشام مخالف لما وجدناه عند من قبله من تصريح بأن الظرف ليس خبرًا بل هو متعلق بالخبر، قال ابن يعيش «واعلم أنّ الخبر إذا وقع ظرفًا أو جارًا ومجرورًا، نحو: (زيدٌ في الدار) و(عمرٌو عندك)، ليس الظرفُ بالخبر على الحقي قة، لأن (الدار) ليست من (زيد) في شيء، وإنما الظرف معمول للخبر ونائب عنه، والتقدير: زيد استقرّ عندك، أو حدث، أو وقع، ونحو ذلك، فهذه هي الأخبار في الحقيقة بلا خلاف بين البصريين، وإنما حذفتها، وأقمت الظرف مقامها إيجازًا لما في الظرف من الدلالة عليها، إذ المراد بالاستقرار استقرار مطلق، لا استقرار خاصٌّ»(8).
إذن ما قرره ابن هشام محاولًا تأصيله بنسبته إلى الزمخشري هو من عند نفسه وهو محالٌ لأن الظرف لا يكون إلا قيدًا على الحدث ذكر أو حذف.
ومن المؤسف أن نجد من تابع ابن هشام في وهمه هذا؛ إذ نجد سيد مير شريف، يقول: «اعلم أن أصل الجملة على أربعة أوجه: اسمية، وفعلية، وظرفية، وشرطية.
1 - فالاسمية: ما تتركب من المبتدأ والخبر، مثل: (زَيْدٌ قَائِمٌ).
2 - والفعلية: ما تتركب من الفعل وفاعله، مثل: (قَامَ زَيْدٌ).
3 - والظرفية: ما تتركب من الظرف والمظروف، مثل: (عِنْدِيْ مَالٌ).
4 - والشرطية: ما تتركب من الشرط والجزاء، نحو: (إِنْ تُكْرِمْنِيْ أُكْرِمُكَ)»(9).
وكذلك الأبذي قال «أقسام الجملة ثلاث: اسمية وفعلية وظرفية»(10).
وكرر السيوطي قول ابن هشام فقال «وتنقسم الْجُمْلَة إِلَى اسمية وفعلية وظرفية، فالاسمية الَّتِي صدرها اسْم كزيد قَائِم وهيهات العقيق، والفعلية الَّتِي صدرهها فعل كقام زيد وَضُرب اللص وَكَانَ زيد قَائِما وظننته قَائِما وَيقوم وقم، والظرفية المصدرة بظرف أَو مجرور نَحْو عنْدك زيد أَو فى الدَّار زيد إِذا قدرت زيدا فَاعِلا بالظرف أَو الْمَجْرُور لَا بالاستقرار الْمَحْذُوف وَلَا مُبْتَدأ مخبرا عَنهُ بهما وَزَاد»(11).
والذي ننتهي إليه أنّ الجملة عند جمهور النحويين من حيث التركيب الإسنادي جملتان اسمية وفعلية، وأما الظرفية فجعلها نظيرًا لهما من ابتداع ابن هشام وهو متوقف فيه.
** ** **
(1) الفارسي، الإيضاح العضدي، بتحقيق مرجان، ص 92.
(2) الفارسي، الإيضاح العضدي، بتحقيق مرجان، ص 92-96.
(3) الجرجاني، المقتصد، بتحقيق مرجان، 1: 274-275.
(4) الجرجاني، المقتصد، بتحقيق مرجان،1: 277.
(5) الزمخشري، المفصل في صنعة الإعراب، ص 44.
(6) ابن يعيش، شرح ابن يعيش، 1: 229.
(7) ابن هشام، مغني اللبيب، 1: 492.
(8) ابن يعيش، شرح المفصل، بتحقيق يعقوب، 1: 231.
(9) سيد مير شريف، نحو مير، ص 39.
(10) شهاب الدين الأبذي، الحدود في علم النحو، ص 475.
(11) السيوطي، همع الهوامع، بتحقيق هنداوي، 1: 56.
- الرياض