قديماً قال ابن عثيمين مادحاً المؤسِس البطل - رحمه الله - الملك عبد العزيز آل سعود:
«العز والمجد في الهندية القضب
لا في الرسائل والتنميق للخطب
تقضي المواضي فيمضي حكمها أمما
إن خالج الشك رأي الحاذق الأرب»
وقبله قال أبو تمام:
«السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحدّ بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في
متونهن جلاء الشك والريب».
ومن يعود إلى المدونة الشعرية للعرب على مدى عصورهم الأدبية سيجد أن لتمجيد «قوة البطولة» نصيب الأسد، لأنها رمز لعزة الأمم والشعوب، فقيمة الشعوب تُختزل بأبطالها وأمجادها، والأبطال عناوين لتاريخ شعوبها.
ولا يقتصر تمجيد «قوة البطولة» على الأدبيات العربية، إنما هو تمجيد شائع في الأدبيات الإنسانية كلها، بُنيت عليه الملاحم والأساطير والفنون واشتُقت منه الرموز والثيمات وأفكار الدراما.
والتطور العلمي والعقلي للإنسان لم يُلغ ميل الإنسان نحو «تمجيد قوة البطولة» على العكس كلما أُغرق الإنسان في التطرف العقلي زاد ميله إلى «تمجيد قوة البطولة»، ولذا لا نندهش عندما نجد أن أعظم رموز «البطولة الخارقة» هي من صنع الثقافة الغربية، ثقافة العلم والعقل، والشواهد على ذلك كثيرة من أهمها:
شخصية «سوبرمان» أو الرجل الخارق الذي ابتكرها طالبان أمريكيان من أصول يهودية هما «جيري سيغل» و»جو شاستز» وهذه الأصول دفعت بعض محللي قصة سويرمان إلى القول إن هذه الشخصية مقتبسة من قصة حياة «موسى عليه السلام».
ثم ظهور شخصية «سبايدرمان» أو الرجل العنكبوت،وهي من ابتكار «بوب كين» و»بيل فينغر» وكلا الشخصيتين من إنتاج الشركة الأمريكية نفسها «سي دي كومكس»، والكومكس المقصود به «قصة مصورة ذات تتابع درامي خاص».
وبعدها ظهرت شخصية «كابتن أمريكا» عام 1941م أثناء الحرب العالمية الثانية، البطل الخارق الذي يرتدي العلم الأمريكي والذي يحاول أن يحمي العالم من الدمار وهو يملك «درعاً» لا تستطيع قوة أن تحطمه، والتي اعتبرت حينها أشهر شخصية في العالم، شهرة بلا شك حققت لثيمات تلك الشخصية ما سعت له أمريكا أثناء الحرب العالمية الثانية، بأنها المُنقذ الجديد للعالم الذي أرسله الرب.
فمن لا يملك «تاريخ قوة» بلا شك يملك القدرة على «صناعة ثقافة القوة» ومع التراكم والانتشار تستطيع «ثقافة القوة» أن تصنع «تاريخ قوة».
ومن تلك الشخصيات شُقت كل الأفكار التي أسست «صناعة البطل الخارق» في السينما الأمريكية.
وقد نُدرك ريادة أمريكا «لصناعة ثقافة البطل الخارق» إذ بهذه الصناعة عوّضت فراغها التاريخي الذي تفتقده كبقية الأمم، فأمريكا هي مجموعة من المهاجرين الذين يختلفون من حيث الخلفية التاريخية، فليست هناك خلفية تاريخية أحادية تجمعهم، ولذا سعى المؤسسون الأوائل لأمريكا أن يرسخوا عظمة أمريكا من خلال أساسين «قوة البطولة» و»قوة العلم».
حتى أصبحت تلك «القوة» هي صفة ثابتة تجاوزت «البطل الخارق» الدرامي والفوتغرافي إلى «صفة مستدامة في الشخصية الأمريكية» ذاتها، هذه الصفة التي روّجتها بين العالم من خلال خطابها الثقافي سواء الفني أو الإعلامي بدعم خطاب سياسي يحمل لواء الألوهية في الأرض.
لم يفرح المواطن السعودي فقط «بعاصفة الحزم» بل كل «مواطن عربي» قد «قرح بعاصفة الحزم»، ولا شك أن أسباب الفرح واحدة، سأذكرها بعد قليل، لكن يُضاف لتلك الأسباب الآتية الذكر بالنسبة «للمواطن السعودي» أمرٌ آخر.
تربى وجدان المواطن السعودي على أدب وثقافة بطولات الدول العربية مصر والجزائر والعراق؛ الدول التي كانت تحت سلطة الاستعمار، في غياب مقصود أو غير مقصود لتاريخ «قوة بطولة مؤسِس الدولة - رحمه الله -»، وهذا الغياب المستمر ركّز التفاعل الوجداني والفكري للمواطن السعودي على تجربة البطولة العربية من حوله، وأصبح يستشهد بها على «تمجيد قوة البطولة» في حالة فراغ ذاكرته الوطنية من هكذا شواهد خارج الاستشهاد العربي العام، فأصبح لذاكرة قوة البطولة خصوصيتها المحلية.
إذاً.. إن الأمر بعد «عاصفة الحزم» اختلف، إذ أصبحت هناك شواهد محلية ستمتلئ بها «ذاكرة المواطن السعودي» لتجربة «تمجيد قوة البطولة».
سيقول البعض لكن هناك سابقاً لذاكرة «تمجيد قوة البطولة» وهي «عاصفة الصحراء».
والأمر بين «العاصفتين يختلف»؛ لأن «قوة البطولة» تبدأ من «صناعة القرار»، وهذا أهم «فرق بين العاصفتين»؛ «فعاصفة الحزم» قرار سعودي بامتياز، وهذه الحرية في صناعة القرار هي التي أوقفت العالم احتراماً للسعودية؛ إذ إنه قرار إضافة إلى ما اتسم به من «حرية ذاتية» تحرر في ذات الوقت من «الحسابات الدولية» فرأى العالم «الوجه الآخر للسعودية» رمز السلام والصوت السياسي الهادئ.
وكم من الأغبياء من يعتقدون أن «الهدوء» معادل «للضعف»، ولا يدركون أن العواصف المدمرة عادة ما تأتي بعد الهدوء.!
وأن الهدوء لا يسلب حرية إنما يمنحها حكمة مستفيضة.
السعودية التي تملك حرية قرار السلام وحرية قرار الحرب، وأن حسابات الأمرين غالباً ما يرتبطان بمصلحة البلاد والعباد، ومتى ما أصبحت تلك الحسابات خطراً على البلاد والشعب أُعيدت إدارتها، أو كما قال حكيم العرب والسعودية سمو الأمير وزير الخارجية سعود الفيصل: «إننا لسنا دعاة حرب، ولكن إذا قُرعت طبولها فنحن جاهزون لها».
لقد تعوّد الوجدان السعودي أن الحروب العظيمة كانت السعودية جزءاً من قيادة تلك الحروب أو سنداً مادياً لها، لكن في عاصفة الحزم أصبحت السعودية هي «القائدة» تحت قيادتها أعظم الجيوش العربية وأعرقها؛ إن فكرة التبعية ولو في أدنى مستوى معنوي لها قد تتمرد من مضمون التكامل لتؤكد على فكرة تتناقض مع «قوة البطولة» في حين أن «فكرة القيادة» تتوافق مع «قوة البطولة»، ولذلك هب الواجدان الجمعي السعودي مؤيداً لعاصفة الحزم وفخوراً ومفتخراً بها ليس لأنها ستغير موازين القوى في المنطقة، إنما قبل كل شيء لأنها صنعت «ثقافة القوة» التي ستُصبح تاريخاً يملأ ذاكرة الأجيال القادمة.
وثنائية «القيادة» و»قوة البطولة» هو الاكتشاف الأول الذي توصل إليه الوجدان السعودي من خلال عاصفة الحزم التي ملأت ذاكرته بشاهد «تمجيد قوة البطولة».
لقد عاش المواطن السعودي مثله مثل المواطن العربي في الفترات السابقة إحباطات مما يحدث حوله من تمدد للحركات الدينية المتطرفة هنا وهناك التي ما تلبث أن ترفع صوت التهديدات مرات ومرات، وتمدد للحركات الشيعية هنا وهناك زادت على غيرها غروراً وغطرسة وتهديداً سافراً للسعودية، وثالثة الأثافي «إيران» وغطرستها في المنطقة، تلك الغطرسة التي أنتجتها «قوة النووي» الذي ترعب به «إيران العالم» و»قوة الميليشيات» التي تتحكم بها وزرعتها في المنطقة وحوَّلتها إلى ورقة ضغط على حكومات دول المنطقة لتدس أنفها ويدها وسلاحها في شؤونها الداخلية.
إن «الحقد» كما «الشر» كلاهما ينتج «قوة التدمير» وإيران تستمد قوتها من «شرها» و»حقدها» على العرب والمسلمين السنّة.
ذلك التبجح لإيران وميليشياتها على السعودية وتهديداتها الخفية لها مع سياسة الهدوء والحكمة وضبط النفس التي كانت تتبعها السعودية مع إيران، كانت تواجه من قِبل المواطن السعودي بدهشة ليس اعتراضاً على سياسة السعودية مع إيران إنما لمعرفة مسبقة أن إيران تقرأ سياسة الهدوء والحكمة وضبط النفس بمعايير سياسة «العصابة» التي تتبعها في الدول العربية سياسة «الضعف والتراخي»، لذا كانت عاصفة الحزم بالنسبة للسعوديين «رد اعتبار» لهم وكسر ضلع لإيران وصفعة مؤلمة عقاباً لها على صفاقتها ومواقفها التحريصية على السعودية.
ولذا هبّ الوجدان السعودي فرحاً بتلك العاصفة التي ردت لهم اعتبارهم وجعلتهم نداً لإيران وميليشياتها، وصنعت لهم «رمزاً لثقافة القوة».
أما بالنسبة للمواطن العربي، فالعرب لهم أكثر من ستين سنة في «غياهب الظلام والضعف والتراخي» بدءاً من فلسطين والجولان المحتلتين، مروراً بنكبات العرب التي لم تنفك حتى الآن منذ استعمار أمريكا للعراق وتركها فيما بعد صراعاً للطائفية ومدخلاً مأموناً للفارسية الجديدة تعث فيها فساداً، ولم يكد العرب أن يفيقوا مما حصل في العراق حتى ظهرت ثورات الربيع العربي الحق الذي أصبح باطلاً بأيدي العرب أنفسهم، وها هي سوريا تُذبح والعرب يتفرجون، وليبيا تتمزق والعرب يتفرجون والسودان قُسّمت والعرب يتفرجون، حالة صدقت فيها وصف الرائع الراحل غازي القصيبي «يموت الصغار.. وما من أحد - تُهدّ الديار.. وما من أحد - يُداس الزمار.. وما من أحد؟».
وفي متن تلك الأحداث المتصارعة انتشرت الحركات المتطرفة على حدود الدول العربية انتشار النار في الهشيم وكأنها نار شيطانية تبلع كل أخضر أمامها، والجامعة العربية لا تراوح مكانها تُندد وتشجب، حتى ظن كل مواطن عربي أن العرب والعروبة لا محالة في اندثار، وأن العروبة نهار غروبه أقرب من شروقه، لتصدق رؤية نزار قباني «رأيت العروبة معروضة في مزاد الأثاث القديم.. ولكني ما رأيت العرب»، أو كما قال أحمد مطر «على الهامش سطر.. أثر ليس له اسم.. إنما كان اسمه يوماً بلاد العرب».
لتأتي اليمن لتصبح «القشة التي قصمت ظهر البعير»، وهنا يبدأ فصل جديد من الحكاية.
- جدة