أي قيمة ذات أثر فاعل يمكن أن تأتي حاليا من تكريم الكاتب عابد خزندار بعد رحيله تشعره بلمسة وفاء حيال ما قدم من منجزات ثقافية وهو الذي لم يسبق أن تم تكريمه رغم مشواره الطويل سوى من إثنينية عبدالمقصود خوجة عام 2001؟
يدهشني كيف تذكرت فجأة إحدى مؤسساتنا الثقافية (نادي جدة الأدبي) أن عليها أن تكرم أخيرا الكاتب عابد خزندار، إذا كانت المؤسسة تعلم بأنه جدير بذلك، فلماذا انتظرت حتى توسد الثرى؟
لم تكن رحلة حياته بالقصيرة» 1935 – 2015»، ولا تلك السنوات التي أمضاها في خدمة الثقافة وإنما كانت خلاف ذلك ثرية وممتدة وتتسع للكثير من مظاهر التكريم.
أم أنه كان عليه أن يموت أولا كما جرت العادة في أوطاننا العربية للأسف، وتأتي صدمة الفقد والموت لنشعر بأهمية تقديم التكريم والاحتفاء بالمنجز؟
إذا ما أدركنا قيمة وأهمية الشعور بالتقدير بالنسبة للنفس البشرية ونتائج وانعكاسات ذلك الإيجابية العديدة عليها وما قد تثمره من فوائد تنعكس بالتالي إيجابيا على البلد وأبنائه إضافة إلى انعكاسها على منجزات الشخص المقدر والمكرم ومؤلفاته، فلماذا لا نلتفت لذلك سوى نادرا كما فعلت مؤخرا جمعية الثقافة والفنون من تكريم للشاعر محمد العلي عبر مهرجان «بيت الشعر»، في لفتة حضارية جميلة لا شك أنها تركت في نفس الشاعر القدير أثرا كما تركت في نفوس محبيه والسائرين في طريق الإبداع والثقافة والفكر. وإن كنت أتمنى اجتراح المزيد من مظاهر التكريم والاهتمام بالشاعر العلي كما أرجو من الجمعية التي بدأت بالفعل في النهوض بدورها الثقافي المأمول منذ أن تولى إدارتها الشاعر المبدع أحمد الملا- في مقابل نكبة ثقافية يعيشها منذ مدة نادي أدبي الشرقية- مواصلة تكريم القامات الإبداعية في المنطقة مثل الفنانة التشكيلية الرائدة زهرة بوعلي التي اضطرتها ظروف الحياة مؤخرا للرحيل والعيش في الخارج قبل أن يحتفى بتجربتها التشكيلية الرائدة.
وعموما لا أريد أن أبخس «ملتقى قراءة النص»، في نادي جدة الأدبي الذي انطلق بمشاركة 35كاتبا خطوته في تكريم الكاتب السعودي الراحل عابد خزندار، ضمن محور الملتقى في دورته الثالثة عشرة، الذي حمل عنوان «الإنتاج الأدبي والنقدي لجيل الروّاد في المملكة: تأريخ ومراجعة وتقويم». إلى جانب كل من الكاتبين: حسن النعمي وحسين المناصرة، الفائزَين بجائزة «جدة للدراسات الأدبية والنقدية في ندوة يذكر أنه شارك فيها كل من محمد القشعمي وهاشم الجحدلي وهناء حجازي. فهي على كل حال تبقى خطوة جيدة تحسب له لكنها جاءت متأخرة جدا أكثر مما ينبغي بعد أن ترجل الفارس، كعادتنا في انتظار رحيل مبدعينا لتكريمهم وكأننا نقول لهم شكرا لرحيلكم أولا، وسنقدم لكم شكرنا على ما قدمتم ثانيا. فهي عادة مستشرية لدينا وقد سبق أن كرم ملتقى «المثقفين الثاني» قبل نحو أربع سنوات 12 أديباً ومثقفاً سعودياً جملة واحدة بعد أن غيّبهم الموت!
ورغم انتفاء القيمة الحقيقية لهذا التكريم بالنسبة للأديب والمثقف بعد رحيله وعدم تحقق تأثيراته النفسية عليه فلم أسمع حتى الآن عن تكريم أديبة أو مثقفة من الراحلين في ظاهرة تحمل العديد من المؤشرات الثقافية والنفسية والاجتماعية.
أتمنى فقط أن نعي فلسفة التكريم والهدف الحضاري منه حتى لا يظل بالنسبة لنا مجرد مظهر مرتبط في عقلنا الجمعي اللاواعي بالموت والرحيل وكأنه واجب عزاء علينا أن نؤديه أو قصيدة رثاء نقدمها مجاملة بلا روح شعرية نابضة.
أتمنى أن لا يظل التكريم في ثقافتنا بأطره المحدودة والضيقة باعتباره السطر الختامي والأخير في مشوار أي مبدع أو مفكر أو مثقف، أو أي شخص يستحق ذلك، لكن باعتباره سطرا جديدا في مسيرة هؤلاء ومحفزا لهم نحو اجتراح المزيد من الإبداع والإنجاز والعطاء.
فالتكريم الذي هو في أحد أقوى تجلياته نوعا من التقدير والاعتراف بالفضل لأصحابه ثقافة للأسف نفتقد كثيرا من أبجدياتها في قاموسنا المعيشي ومفاصل حياتنا الاجتماعية اليومية فنحن غالبا لم نعتد أن نقول لبعضنا «شكرا»، أو نعبر للآخرين عن مدى تقديرنا لما يقومون به من جهود أو يمنحوننا إياه من وقت ورعاية واهتمام أو نكشف لهم عن حقيقة مشاعرنا الإنسانية الصادقة تجاههم.
وغياب هذه الثقافة تعد سببا جوهريا في العديد من خلافاتنا الأسرية والزوجية وسببا في انحسار أجواء المودة والرحمة حيث يظل الزوج يتوق لكلمة ثناء وتقدير من زوجته وفي المقابل تتوق الزوجة لمثل ذلك، ويتوق الوالدان لمفردة تقدير من الأبناء والأبناء كذلك الأمر الذي يسهم في زيادة مساحات التصحر في واقعنا ويفاقم نسب الطلاق وجنوح الأولاد. لذا كم علينا أن ندرك أهمية تكريس قيمة التقدير والتكريم وتقديم واجب الشكر والثناء في حياتنا لمن يستحق وتثمين عطاء أصحاب الإنجازات والمتميزين.
وصاحب «حديث الحداثة»، مع ما قدم من أبحاث وكتب نقدية وترجمات تركت أثرها في الساحة الثقافية المحلية، مثل «معنى المعنى وحقيقة الحقيقة» و»الإبداع» و»رواية ما بعد الحداثة»، وغيرها من مؤلفات مثل :»قراءة في كتاب الحب»، «انثوية شهرزاد»، و»مستقبل الشعر موت الشعر»، «المصطلح السردي»، «معجم مصطلحات السيميوطيقا»، و»الربع الخالي»، كان جديرا بالتكريم في وقت سابق على هذا الوقت بكثير.
شمس علي - الدمام