لقد ظهر لي جليًا بالاطلاع التأملي الطويل على علمي القانون والاجتماع ودراستهما المتعمقة أنهما توأمان ولدا من رحم أم واحدة، وهي الحاجة إلى الأمن، فكثير من كتابات ومؤلفات وبحوث ودراسات ونشاطات مفكريهما وباحثيهما وعلمائهما وناشطيهما تدندن حول أهميته دائمًا وأبدًا.
فارتباطهما بالأمن قديم وواضح جداً لي، ومن ذلك الوضوح أدخلُ إلى ما أريد كتابته عن القانون.. قالوا منذ القدم: «إن كلمة قانون في أساسها جاءت من أصل يوناني، وتعني الشيء المستقيم أو المعيار أو القاعدة»، والقانون بمفهومه البسيط هو مجموعة من القواعد المجرّدة التي يجب أن تُطبّق على الناس دون تفريق أو تمييز بينهم، وبلا نظر لذواتهم ومكاناتهم الاجتماعية، فجميع القوانين تعمل على تحقيق العدالة والمساواة والشعور بالأمن والأمان، وعلى توفير الاستقرار وتطبيق مبادئ حقوق الإنسان في المجتمع.
وبذلك نفهم أن «القانون» ارتبط بأهمية الأمن للبشر بوصفهم (كائنات اجتماعية)، وقد استغرق الإنسان سنوات طويلة قبل أن يصل إلى هذا الأمن على الصعيدين الشخصي والجماعي. وبعد أن وصل إلى شيء من الأمن في البدايات، بذكائه وقدراته المختلفة، تنظمتْ حياته في مجموعات.. فاحتاج بعد ذلك إلى كثير من الأمور للرقي بهذه التنظيمات واستيعابها استيعابًا تحليليًا مفيدًا له، وعلى رأس هذه الاحتياجات تأتي الحاجة إلى القانون بلا أدنى شك.
الإنسان كائن بيوثقافي، أي أن تعريف كلمة (إنسان) يشمل معنيين رئيسيين فيه: الأول هو المعنى البيولوجي الطبيعي، الذي يظهر في اشتراكه مع بقية الحيوانات الأخرى في الغرائز الحيوانية والخصائص الكثيرة المتعددة، والثاني هو المعنى الثقافي، الذي يميزه عن بقية الحيوانات، وهو المعنى الذي جعله سيدًا للكائنات، وشرح هذا يطول، وقد أعود إليه في مقالة أو مقالات مفصّلة قادمة.
وبناء على ما سبق: ظل الإنسان في عصوره المختلفة يرتقي ويرتفع ويتطوّر ويتغيّر فتتغير وتتطور مع تغيّره وتطوّره تنظيماته، ومن لوازم هذه التطورات والتحوّلات ارتفاع حجم الإشكالات التي تواجه هذا الإنسان أيضًا كلّما تمددت وتبدلت تجمعاته ومجتمعاته وازدادت تعقيدا، مما دفعه إلى التوسّع في البحث والتحليل لحل هذه المشكلات، فبرز «علم الاجتماع» الذي اهتم بدراسة حياة البشر في مجموعاتهم واجتماعاتهم، ودراسة الظواهر والتفاعلات الاجتماعية المختلفة، وبرزتْ إلى جانبه الحاجة إلى القوانين والتشريعات الضابطة للمجتمع على كافة الأصعدة.
وبذلك تتضح أهمية المجتمع للإنسان والعلاقة بينهما، باعتباره كائناً اجتماعيًا لا يستطيع العيش غالبًا بشكل سليم مريح صحيح إلا في مجتمعات آمنة منظمة مضبوطة بقوانين واضحة حازمة صارمة.
ألسنا نسمع ونقرأ باستمرار في كلِّ مكان قولهم: «الإنسان مخلوق اجتماعي»؟ إن هذا صحيح بشكل عام، وتظهر هذه الصحة من خلال حتمية دخول كلِّ فرد منّا -غالبًا- مع غيره من البشر في منظومة علاقات وارتباطات متواصلة، يتم من خلالها تفسير وبيان نشاطاته وتفاعلاته وتصرفاته بكل أشكالها وألوانها وإيضاح مقصده منها.
ومن شبه المستحيل مع هذه المنظومات الواسعة المتواصلة من العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمعات.. من شبه المستحيل تحقق الأمن والاستقرار دون وجود القانون القوي القادر على تنظيم علاقاتنا وتعاملاتنا المختلفة كبشر، فإذا فقد القانون فسنعود إلى حياة الغابة، التي كان الإنسان القوي في ظلها يفترس أخاه الإنسان الضعيف في العصور البدائية والقديمة، التي سبقتْ انتقال الإنسان من فوضاه وهمجيته في (عالم الطبيعة) الحيواني، إلى رقيه وتحسّن أحواله في (عالم الثقافة)، بكل ما فيه من قواعد وأعراف وأنظمة أنشأها الإنسان بنفسه هربًا من كلِّ الأخطار والأضرار التي تحيط به ويخاف منها.
قد يعترض البعض على هذا بقوله: لا يصح التعميم هنا، فقولك: «إذا فقد القانون سنعود إلى حياة الغابة» ليس صحيحًا على إطلاقه، فقد وصلتْ الإنسانية اليوم إلى مرحلة عالية من التقدم والوعي والرقي الثقافي، الذي جعل كثيرًا من الأفراد في كثير من المجتمعات، يرفضون ويكرهون ويمتنعون عن الإساءة لغيرهم من الناس، حتى لو غابتْ القوانين، فلديهم روادع ذاتية، من خلال أخلاقهم وتقاليدهم وثقافاتهم الجميلة وضمائرهم الحيّة المؤدّبة المحترمة.
وهذا بلا شك صحيح في نظري؛ ولكنه لا يشمل الجميع، فكثير من أفراد المجتمعات أيضا لا يرعوون ولا يتورّعون عن ارتكاب أشنع وأبشع الجرائم والإساءات ضد غيرهم، إذا تمكنوا من الفرار من قبضة القانون أو التحايل على بعض فقراته، ولا شك أن جرائمهم وتجاوزاتهم ستزيد لو فُقد القانون بشل كامل أو نهائي من باب أولى، فالإنسان في النهاية ليس إلا ذئباً في تعامله مع أخيه الإنسان في نظر كثير من الفلاسفة والمفكرين، كفرويد وغيره من الفلاسفة ذوي النزعة المادية خاصة، وغيرهم أحيانا، فلدى هذا الكائن العجيب غرائز وحشية عدوانية، تنطلق -في نظرهم- فجأة دون سابق إنذار في كثير من الأحيان إذا غابتْ أو ضعفتْ القوانين، مهما تستر وتجمّل بأزياء القيم والأخلاق والثقافة والفضيلة وما شابه.
كانت تلك التوطئة هامة في نظري، وبعدها أقول:
تبدأ علاقة الإنسان بالقانون فور ولادته، فلا بد على والده من اختيار اسم له وفق قواعد معينة غالبًا، ثم تسجيله في دوائر الدولة المتعلقة بالنفوس أو الأحوال المدنية أو ما شابه ذلك.. وهكذا يستمر ارتباط الإنسان بالقانون عند تسجيله في المدرسة وفق قوانين محددة.
ثم يزيد الارتباط بالقانون مع تقدم العمر، فلا يمكن لإنسانٍ أن يتزوج أو أن يُتم أيّة عملية بيع أو شراء أو سفر أو غير ذلك من الأمور الحياتية الكثيرة إلا وفق إجراءات قانونية وتنظيمية محددة.. إن الإنسان يخضع لتشريعات مختلفة طيلة حياته، بل وبعد مماته أيضًا، فلا يمكن أن يُدفن -غالبًا- إلا بأوراق قانونية معينة، ولا يمكن لورثته مثلاً أن يقسموا التركة إلا بقوانين.. ولا يمكن لدائنيه تحصيل مستحقاتهم إلا بأنظمة... وهكذا.
وقد قلنا سابقًا في مقالات الفلسفة العامة: الفلسفة هي حب الحكمة، وشرحنا الحكمة وخلاصة ذلك أنها -في نظر الكثيرين- تعني الحكمة في السلوك، وعرّفنا السلوك بنوعيه الظاهر والباطن. ومن هنا أريد أن أصل إلى أن تعريفنا وفهمنا للقانون بأنه مجموع ما يُسنّ وما يشرّع من قواعد وإجراءات تهدف إلى ضبط السلوك العام للأفراد والجماعات، هو أفضل مدخل في نظري لشرح كيفية توطّد العلاقة بين القانون والفلسفة.
وبناء على كلِّ ما سبق: تتساءل فلسفة القانون: ما هو القانون؟ كيف خُلقتْ هذه القوانين ومتى بدأت ومن أين جاءت؟ ما آليات تطورها، وما هو الأنسب منها المحقق للغايات المنشودة، وما هي هذه الغايات قبل ذلك؟ وما هو الفرق بين الحق والقانون؟ وهل القانون في أصله طبيعي أم وضعي؟ وما هي علاقة القانون بغيره من المجالات والعلوم؟ وأسئلة لا تنتهي من هذا القبيل تعمل الفلسفة على البحث فيها والإجابة عنها بصورة تكاملية تفصيلية شاملة.
وبالتالي ففلسفة القانون تشمل كلَّ ما يدخل تحت دراسة وتأمل مجموعة الأهداف والأغراض التي يحققها صدور القوانين، ويجتهد الفلاسفة في عكس تلك الطموحات والآمال التي يمكن أن يحققها القانون. كما أن فلسفة القانون تسلط الضوء على الضرورات الكاشفة لحاجتنا كبشر إلى مختلف أشكال وألوان القوانين، كنتيجة لحاجتنا الأساسية الأولى، أعني حاجتنا إلى الأمن، التي انبثقتْ عنها وتفرَّعتْ منها حاجات فرعية متعددة، كالحاجة إلى القانون وعلم الاجتماع وغيرهما..
نتوقف هنا الآن، ونواصل هذا الحديث المبسّط عن القانون وفلسفته في الجزأين القادمين بمشيئة المولى.
وائل القاسم - الرياض