إن وضع اللسانيات الحديثة لما يزل في البداية في الجامعات السعودية، فالتكوين العلمي يطغى عليه التكوين التراثي أو البقاء في إطار اللسانيات التقليدية دون الاجتراء على القيام بتطوير حقيقي في درس اللسانيات الحديثة إلا ما تقوم به على استحياء جامعة الملك سعود من محاولات لا تتعدى الجانب الصوتي والدلالي مع ظهور بعض الدراسات القليلة جداً في لسانيات النص وتحليل الخطاب وقد أسهمت معها جامعة الأميرة نورة بطرف من ذلك الجهد مع إهمال تام للسانيات التركيبية التي هي (أم اللسانيات).
أما نشوء مدارس لسانية حديثة أو العمل التراكمي النوعي للولوج في خضم اللسانيات الحديثة بأفرعها المختلفة فيبدو أنه غير مخطط له حتى الآن كما يبدو أنه متوقف أو سيتوقف إن لم توجد خطط علمية تكاملية تحاول الإلمام بهذا الفرع العلمي المهم أقصد اللسانيات الحديثة، ولعل ثمة جملة من العوائق التي لما تزل تحول إلى انتقال البحث العلمي اللغوي بشكل عام والبحث داخل أروقة الجامعات إلى آفاق اللسانيات الحديثة وسوف نحاول استجلاء بعض تلك العوائق قصد تفكيكها والعمل على تجاوزها..
وسأشير إلى جملة من العوائق العامة ثم أخص العائق التكويني بمزيد عناية..
فمن العوائق العامة: العائق الأيديولوجي، وقد أضحى من المعروف أن ثمة اختلافاً كبيراً بين الأيديولوجيا والعلم فالمتمثل الأيديولوجي يخالف تمام الاختلاف التصور العلمي؛ فالتمثل الأيديولوجي يسعى إلى ملء الفراغ وتوحيد المتباين بينما يبغي العلم معرفة الواقع الفعلي، فالعلم هو الممارسة النظرية المنتجة للمعارف وسيلتها في ذلك التصورات والمفاهيم، ولكن المعرفة قد تصبح أيديولوجية كلما حاولت الالتصاق بالواقع دون إحداث تغيير معرفي فيه...
ولأن اللسانيات تحاول التغيير في المنظومة المعرفية القريبة من الأيديولوجيا فقد تعرضت للهجوم الشرس بغية تشويهها والتقليل من فائدتها، واستشعار أخطار وهمية على اللغة المدروسة وعلى الأيديولوجيا السائدة، إضافة إلى أن مصطلح اللسانيات تم حشره - محليا - في سلة واحدة مع الحداثة الشعرية... مما أدى إلى التنفير منه منذ البداية
ونستطيع أن ندخل في هذا العائق خطاب المؤسسة القائم على علاقات قوى... فالجامعة في النهاية هي مؤسسة تابعة وخاضعة، ولا يمكن ألا أن تنضوي تحت علاقات قوى المؤسسة الكبرى مهما كانت أصناف تلك القوى التي لا تستطيع حتى المؤسسة الكبرى في بعض الأحيان التخلص من أخطبوطيتها وتشابكها بيسر وسهولة، ومن آثار هذا العائق نشأ في أروقة الجامعات، وفي الخطط الدراسية، وفي بعض أبحاث أساتذة الجامعات ما أسميه برهاب التسمية يتضح ذلك في محاولة البعد عن مصطلح لسانيات ومحاولة استبداله بأي مصطلح آخر، كاللغويات، وكعلم اللغة...
وفي رأيي أن الانعتاق من الأثر الأيديولوجي لا يكون إلا بمزيد من الحوار، ومن خلال ترويض الأسس الإيديولوجية التي تلتقي بالأفكار الجديدة، والقبول بالانتقال المتدرج الذي يذيب فيه سيلان الزمن كثيراً من كتلة الأيديولوجيا الصلبة فلا مقاوم للأيديولوجيا مثل الزمن.
ومن العوائق العامة: العائق الإبستمولوجي، وهو عائق قد أشبعه البحث اللساني العربي... وتتمحور أزمة أبستمولوجيا اللسانيات في علاقتها بالتراث وبالفكر العربي عموماً وفي الموقف من التجديد وفي الموقف من الآخر علاوة على موقفها من اللغة ذاتها، ولكنني لا أرى ثمة تعارضاً بين المحافظة على كل قيم من تراثنا والانفتاح على كل قيم عند الأمم الأخرى بما في ذلك الاشتراك في بناء اللسانيات تنظيرياً وتطبيقاً مع اللغات الأخرى، والحث على تمهيد أسباب التعدد في مقاربة الظاهرة اللغوية بدون حدود.
إنني بكل صراحة لا أتفق مع التراثيين في قعدتهم، ولا مع الموفِّقين في تلفيقهم، ولكننني أؤيد كل ما حقق الشروط الابستمولوجية والمعرفية لتطور العلوم دون غضاضة في الأخذ من الغير.
أما العائق التكويني فمن يعرف وضع الجامعات السعودية وتطورها وارتباطها القائم بالمؤسسة وبالخطاب يقدر الوضع الخاص الذي استمرت تعيش فيه الجامعات فترة طويلة من الزمن...، ومع اختلاف الأوضاع العلمية والحضارية في نهاية القرن العشرين والتهاوي الإيديولوجي والانفجار المعلوماتي، وانتقال العالم إلى مرحلة أخرى من الصراع التنافسي الحضاري والتقني، وتقارب الوضع الجامعي في العالم من حيث الرغبة في إثبات التميز المعرفي والتسابق في ميادين العلوم، وظهور مقاييس عالمية موضوعية (بعيدة عن الأدلجة) أصبحت تلك المقاييس مثل كابوس مرعب أو مثل الإشارات القوية التي تفضح الضعفاء، وتعري كل وضع مخادع، فانبرى العالم أجمع في تسابق محموم لإثبات الذات وللتقدم نحو المستقبل، وقد وقع عبء ضخم على الجامعات للتحول إلى جامعات حضارية علمية منافسة، واستلزم الوضع إصلاحا لما تزل مسيرته وضعنا المحلي وفي الوضع العربي متباطئة في حتى الآن.
وحينما ننظر إلى وضع تدريس اللسانيات وخصوصا الحديثة نجد تدريسها في الجامعات ضعيفاً جدا، بل مهملاً في عموم الجامعات، ونحن لا ندعو هنا لا ندعو إلى استبدال اللسانيات الحديثة بالنحو القديم، فالنظرية النحوية القديمة تغلغلت حتى أصبحت كأنها جزء من الهوية المعرفية وجزء من التراث الثمين الذي يجب المحافظة عليه، ولكننا ندعو بإزاء ذلك إلى الاهتمام بالدرس اللساني الحديث اهتماماً يجعل الطالب قادرا على البحث وعلى الإنتاج وعلى توظيف المعارف اللسانية الحديثة في جوانب مختلفة من حياته...، إن عدم تدريس اللسانيات الحديثة والعلوم الداعمة لفهمها كاللغات الأجنبية، والمنطق الرياضي، والرياضيات، والحاسوب بقدر كاف في التعليم ما قبل الجامعي وفي التعليم الجامعي وفي مراحل الدراسات العليا لن يؤدي إلى بحث علمي لساني حديث، ولن يؤدي إلى الإفادة من اللسانيات في المشاريع البناء الحضاري والتقني.
وهنا يمكن أن نذكر أن هنا أنه توجد إبستمولوجيا مدرسية يمكن اسثمارها في تنمية العلوم وهي تختلف عن إبسيتمولوجيا المعرفة، بحيث تطل مفاهيم مثل النقل الديداكتكي، والتمثلات، والمنهاج وعلى ذلك فإن من الواجب في تدريس اللسانيات الحديثة نزع التمثلات القبلية التي تستند إلى المعارف والمفاهيم القديمة ؛ لأنها تتحول إلى عوائق إبستمولوجية ويكون ذلك النزع بمحاولة معالجتها ودمجها في البنية المعرفية الجديدة قصد تجاوزها، وهذا لن يتحقق إلا من خلال رؤية شمولية تقوم على التفكير في التمثلات الأولية بشكل يجعل منها إستراتيجية لاكتساب المعرفة ومرحلة لسيرورة الفعل التعليمي - التعلمي ومن خلال كون التعلم (سيرورة) فإن المتعلم يتمكن من استبدال تمثلاته القديمة بأخرى جديدة وفق شروط أهمها:
- تحديد الاختلاف بين التصورات القديمة والجديدة.
- قابلية التصور الجديد للفهم والاستيعاب.
- اعتبار التصور الجديد صادقاً في البداية.
- التدرج في إدخال المفاهيم الجديدة بحيث لا تتم بكيفية سريعة وفجائية.
وعلى ضآلة التدريس الفعلي للسانيات الحديثة في الجامعة، فإنها لا تأخذ بهذه الشروط ولا تهتم بها لإحداث نقلة في استيعاب الدرس اللساني الحديث ؛ ويتضح ذلك من المخرجات النهائية في البحث في المجال اللساني الحديث التي تكاد تختفي، كما يتضح أيضاً من انتماء منتجي المعرفة اللسانية الحديثة القليلة والمحدودة والمحاصرة لدينا إلى جامعات غربية.
إن هذه الشروط يجب أخذها في الاعتبار عند البدء في كسر العائق التكويني ؛ ليمكن من بعد تأسيس معرفة لسانية قوية تتمكن من خلال تراكم معرفي من إدخال تحولات كيفية على مختلف مجالاتها، ومن الوصول إلى مستوى التنظير الذاتي وإلى مستوى توظيف اللسانيات الحديثة.
د. جمعان عبدالكريم - الباحة