لطالما كانت لدي القناعة بأننا لا نملك الحق في قراءة رسائل الآخرين وكتاباتهم السرّية، مهما بلغنا قرباً منهم. فقط أشعر بالحياء. ذلك الشعور كان كفيلاً بزرع هذه الفكرة لديّ. لكن هذا الشعور بدأ بالانحسار تدريجياً عندما شرعت بقراءة كتاب (رسائل كافكا إلى فيلس). الرسائل نفسها تزيل هذا الحياء؛ لأن عملاً حميمياً كـ(المسخ) و(المحاكمة) أنا شخصياً اعتبرته بنفس درجة الحميمية. فهذا منهج كافكا في الكتابة. قد يعتقد الكثير من متابعي أدب كافكا أنه عرضٌ مخزٍ للعجز النفسي، عدم الحسم والخوف.
«لن أنجب طفلاً» يكتب في الرسائل، لكنّه يقولها في شكل رسالة موجّهة لشقيقته التي أنجبت مؤخراً. الزواج بالنسبة لكافكا مشنقة. لم تتغير فكرته خلال التحولات والأحداث عبر السنين. فكرته عن الزواج أنها لا بد أن تستبعد احتمال أن يكون الإنسان صغيراً جداً لدرجة يمكن تلاشيه. يقول في الرسالة: «بشكل عام، تحمُّل الأطفال في الشقة يتطلب مني قوة. لا أستطيع ذلك. لا أستطيع نسيان نفسي. يرفض دمي التدفق؛ يصبح متخثراً». يصوّر لنا كافكا أن صغر الأطفال صغر شكلي فقط، لكن الصغر الحقيقي هو الذي يجعله يتلاشى. في خضم كتابة كافكا للمسخ يطلب من فيلس ألا تكتب رسائل له وهي في سريرها في الليل بل عليها أن تخلد للنوم، وتترك الكتابة في الليل له. هذه صورة لإعجابه بعمله الليلي. يقول الناقد جيرمي آلدر: «كافكا أقل إبهارًا من بروست، وأقل ابتكارًا للأفكار من جويس، لكن رؤيته أشدّ قسوة، أشدّ ألمًا، وأكثر كونيّة من غيرها. وهذا ما تفوق به أدب كافكا، وتجسّد بأعماله ورسائله».
يقول كافكا في رسائله: «ذكرتِ مرة أنك تحبين الجلوس بجانبي وأنا اكتب، فهل لاحظت في تلك الحالة أني لم أستطع الكتابة؟ لهذا لا يمكن للمرء أبداً أن يكون وحيداً بدرجة كافية عندما يكتب؛ لهذا لا يمكن أن يكون هناك سكون كاف عندما يكتب؛ لهذا الليل ليس ليلاً كافياً؛ لهذا ليس هناك وقت كاف تحت تصرف الإنسان؛ فالطرق طويلة؛ ومن السهل أن يضل المرء..».
على المرء أن يقرأ هذا الخطاب الرائع بأكمله. لم يوجد أبداً مثل هذا القول القاسي عن الكتابة. كل الأبراج العاجية في العالم تنهار أمام هذا الكاتب. يجدر القول أنه بالنسبة لكافكا الذي نادراً ما شعر بالطلاقة في الكلام تشكّل الحب لديه من خلال الكلمة المكتوبة. النساء الثلاث الأهم في حياته هن: (فيلس، جريت وميلينا). شعوره لكل منهن تشكَّل من خلال الخطابات والرسائل. جعل من المرأة كائناً يحسه من خلال رسائله إليها. لم تكن المرأة أكثر من كائن للكتابة، يجد كافكا في علاقته بها المسوّغ الحقيقي للنص الأدبي الروائي.
كان كافكا شديد الحساسية تجاه جسمه، وقد تنبه إلى ذلك منذ طفولته؛ ما جعله مراقباً بانتباه لجسده الذي كان ميزان حياته كلها، وسبب نفوره مما هو خارج هذا الجسد. فنجده يحرص على تجنب الضوضاء، ويعتبر غرفته ملجأه الشخصي، بل جسده الخارجي، ولا يطيق الزوار.. حتى العيش مع أسرته اعتبره مصدر عذابه، فيقول لها: «أكره في شكل قاطع كل أقاربي؛ ببساطة لأنهم أشخاص أعيش بالقرب منهم».
في رسالة إلى فيليس، إحدى نسائه، يشخّص كافكا أزماته: «ليس لدي اهتمام أدبي. أنا مصنوع من أدب. لست شيئاً آخر، ولا أقدر أن أكون شيئا آخر». وفي رسالة أخرى يعلن كافكا أن الكتابة إنما تعني «تزيين الجثة بالأنوار»، وأنها «عمل مميت». ورغم ذلك يشعر كافكا بأن (العازب) «ليس أفضل من حشرة».
في إحدى رسائله يقول: «إنْ كُنّا نقدّرُ حيواتنا دعينا نهجرها تمامًا.. مُكبّلٌ أنا بنفسي إلى الأبد. هذا هو أنا، وهذا ما يجب علي أن أحيا به».
«محاكمة كافكا الأخرى»، وربما اختار إلياس كانيتي العنوان دلالة على العلاقة الرسمية التي ارتبط فيها كافكا بفيليس، والتي جاءت المراسلات فيها بينهما شاهداً على خمس سنوات من العذاب والحب، ظل خلالها كافكا قلقاً مراوحاً بين خطر أن تحتل الحبيبة مركز حياته وتصرفه عن الكتابة، والوحدة التي عشقها وبغضها في آن واحد.
لم تخرج هذه المراسلات إلى النور إلا بعد أربعة وثلاثين عاماً من وفاة كافكا.
أحلام الفهمي - الدمام