إن كان دارسو الأدب قد اتفقوا على أن المتنبي من أعظم شعراء العربية؛ فإنهم أيضاً اتفقوا على أنه كان متضخمَ الأنا إلى حدٍ بعيد، شديدَ الاعتداد بنفسه، لا يرى الناسَ حوله إلا أَهْبَاءً مقززةً يميطُها عن وجهه بيده، وأظنني لا أحتاج إلى شواهدَ كثيرةٍ لأثبت هذه الخَصِيْصَةَ النفسية لديه، إذ يكفي منها قوله:
أيُّ مَحَلٍّ أرتقي
أيُّ عظيمٍ أتقي
وكلُّ ما قد خَلَقَ
الْله ومالم يخلقِ
مُحْتَقرٌ في همتي
كشعرةٍ في مفرقي
ولا أدري أين قرأتُ لأحد الباحثين وأظنه محمد حلمي كمال (ت 1986م) حين حللّ هذه السمةَ لدى المتنبي فتوصّل إلى أنه يعاني من مرض «البارانويا» أو «جنون الارتياب» وهو حالةٌ من الهذاء النفسي يتفرع عنها «هُذاء العَظَمَة» أو ما يُتعارف عليه بـ»جنون العظمة»، وصاحبها دائماً مرتابٌ فيمن من حوله، ظاناً بهم أنهم يسعون لإيذائه والنكاية به، لا لشيء إلا أنه شخص عظيم يتفوق عليهم بمواهبه! ومن لطيف ما يُذْكَرُ عن هذا المرض أن من أسبابه التعرض لنائبةٍ من نوائب الدهر، وهو سببٌ يجد له قارئ شعر المتنبي أشباهاً ونظائر، كقوله:
أفاضِلُ الناسِ أغراضٌ لذا الزمنِ
يخلو من الهم أَخْلاهم من الفِطَنِ
وهو هنا يقرر حقيقةَ أن الأفاضل من الناس أعداءٌ للزمن يرميهم بنوائبه ويقصدهم ببلاياه، ولا شك أنه يُلمِحُ إلى نفسه في هذا التقرير، ونسي المتنبي أو تناسى عداءَ (الزمنِ) للفقراء والجهلاء وعديمي المواهب أيضاً، فليسوا بأحسن حالاً منه، وليسوا خالين من الهم لأنهم بلهاءُ غيرُ فطناء، فالأفاضل والأراذل في الهم ووجود الهمةِ- سواء، والتاريخ يحتفظ بأراذلَ قُـطّاعِ طرق وجُهّالٍ لا يُحسنون القراءة والكتابة (خالين من الفِطَنِ) ومع هذا فقد كانوا أصحاب همم عالية توصّلوا بها إلى سدة الحُكْم حين واتتهم الظروف وصَنَعَتْ هممهم ورَبَّتْها بعد أن كانت حقيرة، وهذا ما نجده في سيرة القائد المكسيكي(فرانسيسكو بانشو فيا) (ت1923م)، ولكنّ تعاظم المتنبي جعله لا يُحِسُّ بالطبقات المسحوقة من البشر الذين أحسَّ بهم هذا المكسيكي فمهّدوا له الطريق للزعامة في حين لم يُقِمِ المتنبي لهم وزناً؛ فرجع صفر اليدين من الزعامة المنشودة يضرب أخماساً في أسداس مُـحَـوّلاً لعناتِه الهجائيةَ الـمُصْميةَ إلى نَحْرِ كافورٍ الإخشيدي؛ وما ذاك إلا أن هؤلاء الناس الذين كان ينبغي على المتنبي أن يتوجه لهم بخطابه الإبداعي «مُحْتَقرون في همته» وليسوا بأفاضل، فهم لا يملكون ما يملك من الثقافة والعلم والشعر والمال والجاه، وعليه؛ فليتوجه الخطاب الشعري إلى الزعماء والقادة والأعيان؛ ولذا نجده ينتقل بعد البيت السابق الذي رأى فيه عداء الزمن للأفاضل (من أمثاله هو ومَنْ في طبقته) - إلى التعبير عن غروره وتعاليه على الناس ليُؤكد حقيقة إصابته بهذا الداء (البارانويا)، حيث يقول:
وإنما نحن في جيلٍ سواسيةٍ
شرٍ على الحر من سُقْمٍ على بَدَنِ
حولي بكل مكانٍ منهم خِلَقٌ
تُخْطِي إذا جئتَ في استفهامها بِمَنِ
إذاً فالناس أشرارٌ في مقابل خيرية المتنبي، وهو حرٌ كريمٌ في مقابل عبوديتهم، بل إنه ليتقزز منهم حين يراهم في الطرق والممرات حتى لكأنهم الديدان ! فهم لا يستحقون إذا أردتَ الاستفهام عنهم إلا أن تقول: ما أنتم؟، لا أن تقول: مَنْ أنتم؟ إنْ هم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً ! وأريدُ من تحليل هذه السمة في المتنبي أن ألتقط خيطاً لأنسج منه عدة أسئلة: هل الغرور واحتقار البسطاء من الناس (متلازمة الأذكياء) إن صح التعبير؟ وهل يحق لمن رُزِقَ موهبةً ما أن يتعالى على من حُرِمَها؟ وهل تعالِي أصحاب المواهب ذكاءٌ ناتجٌ عن طول تفكر أم عن سذاجة وبساطةٍ في التفكير وقلةِ خبرةٍ بالعلاقات البشرية؟
لستُ ممن يرى أن الغرور –بالضرورة- نقصٌ في العقل كما يشيع في بعض الحِكَم؛ لأن هذا يستلزم جرّ الحُكْم على المتنبي وهو مما لا ينطبق عليه، ولا أنه يُذْهِبُ الحِكْمة، فحِكَمُ المتنبي عَبَرَت الزمان والمكان، وتداولها الناسُ بجميع مستوياتهم الثقافية، ولهذا نسبتُ غروره إلى داء «البارانويا» موافقاً لمن سبقني من الباحثين، لكنني أتساءل: لماذا لم تدفعه عبقريته إلى النزول لكافة الطبقات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية الدنيا والاعتراف بحقها الإنساني في التكريم، والكشف عن سبب دنوّ هِمّـتِها ودوافعها لفعل (الشر) كما يرى المتنبي، ما ضَرَّهُ لو عالج هذا كله في قصائده فتَسَبَّبَ لهم في نقلةٍ نوعيةٍ إيجابية، كما تَسَبَّبَ لنفسه بنيل الزعامة التي طالما قاتل من أجلها فخاب مسعاه؛ لأنه لم يراهن إلا على جوادٍ خاسر هو موهبته العظيمة التي لم يشعر بها (في زمنه) إلا هو والخاصّة من الناس!
في ظني أن التهور والتعجّل لنيل المطالب هو الذي شوّشَ على ذكاء المتنبي فلم يتنبّه إلى أهمية احترام البشر كافة ممن لا يَعيبُ احترامُهم، وإلاّ فإن عظماءَ آخرين تنبهوا لهذا الأمر فتنازلوا عن نصف ذكائهم وأفسحوا النصف الآخر للتواضع فنالوا الحظوة والجاه والرياسة ونفعوا بموهبتهم خلقاً كثير، وما رواج مقولات (المهتاما غاندي) بغائبٍ عن الذاكرة الثقافية؛ ولهذا جاز لمصطفى السباعي أن يقول: «إن نصف الذكاء مع التواضع أحبُّ إلى قلوب الناس وأنفع للمجتمع من ذكاءٍ كاملٍ مع الغرور»، فضلاً عن أن تعامل المتنبي مع الناس والحُكمَ عليهم يحتكم فيه إلى عقله هو دون مصدر آخر يمثّلُ سلطةً أخلاقية يُذعن لها الجميع، ومن هنا يثور السؤال: هل الأذكياء أصحاب المواهب العلمية أو الإبداعية يرون أن من حقهم (الأخلاقي) التعالي أو ربما لطّفوا العبارة فقالوا: التسامي عن الأراذل والترفّع عن أصحاب الهمم الضعيفة؟
في ظني أن هؤلاء يحملون قدراً من الرغبة في التحكم بالناس، ولو اتسعت رؤيتهم لبان أن تشابه الهمم لو تحقق في جميع الناس لاختل التوازن الحياتي، بل إن أصحاب الهمم العالية لا يتميزون لدى أنفسهم ولدى الناس إلا بوجود أصحاب الهمم الدنيئة ! وليس من حقي أن أسلب المزهوين بمواهبهم حريتَهم في اتخاذ هذا الخُلُق، لكنّ المُشْكِلَ الأخلاقي الكبير هو: هل سينتفع المجتمع بموهبتهم وهم يحتقرون ثلثيه، ويتهمونه بالجهل والتخلف عن معالي الأمور ؟
اللافتُ جداً أن المتنبي رغم تعاليه في شعره (والناس بطبيعتهم يكرهون من يتعالى عليهم) -استطاع بموهبته الفذة كسر القاعدة والتأثير في المتلقين ونيل إعجابهم، ولعل الإبهارَ في عبقريته أعمت الأبصار عن هذا التعالي، فلم تر إلا غرره ودرره.
عبدالإله بن سوداء - الرياض