الفن هو الجسر بين الروح والسماء، وهو الرسالة المرسلة لحضارات الشعوب من دون رسول أو نبي، وهو العلامة الثابتة والمشتركة بين كل الأمم المتعاقبة من بني البشر على مر التاريخ والعصور المختلفة. لقد تجذر الفن عبر التاريخ في وادٍ ذي ثلاث شعب، فبين المسرح والرسم الأشغال والموسيقى كان الفن يشق طريقه حاملاً المعنى والسمو والمتعة، ليشكل متنفساً تعبيرياً فضفاضاً لمواجهة القضايا التي تنحر عنق الإنسانية، ويبقي على أنفاس الجمال ليعيش بيننا يوماً آخر وربما أزمنة أخرى رغم ما واجهته هذه الرسالة السامية من حرب شعواء لا تريد لها الاستمرار، شأنها في ذلك شأن كل الرسالات الإنسانية التي جاهدت حتى حفرت في صخرة التاريخ نقشاً، لا يُمحى، وتركت أثراً باقياً ما بقت الحياة في هذا الكون.
يقول حكيم هندي (إن عذوبة الألحان توطد آمالي بوجود أبدية جميلة) كما قال جبران خليل جبران عن الموسيقى كنوع من أنواع الفن: «الموسيقى كالمصباح، تطرد ظلمة النفس، وتنير القلب، فتظهر أعماقه والألحان، في قضائي، أشباح الذات الحقيقية أو أخيلة الشاعر الحية، النفس كالمرآة المنتصبة تجاه حوادث الوجود وفواعله تنعكس عليها رسوم تلك الأخيلة».
لقد تأصل الفن في كل مظاهر الحياة، حتى أصبح من يشعر بذرة إنسانية أن يتذوق الفن في كل شيء حوله، فالطبيعة فن، وتلك الجذور الممتدة في باطن الأرض ليثبت أصلها وفرعها يثمر ثمراً جنياً فن، وتلك الشمس المنغرسة في كبد النهار لترسل خيوط الضوء التي تخترق عتمة الغرفة المعزولة بستائر مغزولة بألوان قاتمة فن، حتى ذلك الظل المتراقص خلفنا فن، ويبقى إدراك الحاسة البشرية لقيمة هذا الفن وهذه الرسالة الداعية إلى حب الحياة هو المدافع الأول عن بقاء هذا الفن من عدمه.
لقد تساءلت كثيراً.. هل يعتبر الفن جزءاً من الثقافة؟!
وقد وصلت إلى قناعة بأنه إن لم يكن الفن والثقافة أخوة من بعضهم البعض فإن المؤكد أن الفن جزء لا يتجزأ من الثقافة وربما الأصح بأن الفن الابن الشرعي المنسي لها، بل إن الهوية الفنية والإبداع الفني بشكل عام هو المنطلق الأساسي لبناء التعددية الثقافية المشتركة ذات الأبعاد الإنسانية.
وإن ما يدلل على أن الفن جزء من الثقافة العامة، نجد أن الموسيقى تسير أمام العساكر في اصطفافهم العسكري بالزي الموحد وأثناء تأدية التحية العسكرية، كما أنه على مستوى الطب النفسي فإن هناك ما يسمى التشافي بالفن أو العلاج بالفن وهو أسلوب علاج شائع يهدف إلى إفراغ الطاقات السلبية والشحنات التي يحملها الجسم وتفريغ العقد والكبت من خلال ممارسة نوع من أنواع الفن، ونجد أن المتاحف الشعبية تحفل بأصالة الأعمال الفنية اليدوية على الفخار والغزل بالصوف وكلها أعمال تندرج تحت جناح الفن والذي يعتبر جزءاً وعنصراً هاماً في الثقافة العامة.
إن الذاكرة الفنية بتاريخها الفلكلوري سواء كانت ذاكرة مسرحية أو موسيقية أو حتى من خلال معارض الرسم واللوحات الشهيرة تعتبر جسراً للتفاعل والتقارب الإنساني بين الشعوب المختلفة، والأجيال المتعاقبة، بل إن تلك الذاكرة توسعت في مهامها إلى المزج بين عدة ثقافات نشرت ما يسمى بالتنوع الفني وعززت الروابط بين الثقافة والفنون لتحل الصراع القائم في جدلية العلاقة بين الفن والثقافة.
وأدلل على ذلك بلوحة الموناليزا التي رسمها الرسام الإيطالي الشهير ليوناردو دافينشي عام 1503 م وانتهى من رسمها عام 1510م وظلت منذ تلك الفترة وحتى هذا اليوم هي الشغل الشاغل لمختلف النقاد من مختلف دول العالم، بل وأنها أشغلتهم بما تخفيه من أسرار فنية وشخصية لا يعلمها إلا دافنشي نفسه، ولا يكاد يمر احتفال فني أو افتتاح معرض رسم في أي دولة من دول العالم دون يتم التعريج على ذكر تلك اللوحة التي تعتبر واحدة من أفضل الأعمال على مر التاريخ.
وعلى صعيد المسرح فقد قدم الكاتب الإنجليزي وليام شكسبير شخصيات خالدة في التاريخ المسرحي التراجيدي، وعلى صعيد المثال هاملت، وعطيل، وماكبث، والتي اتسمت بالحبكات الفنية المعقدة في الشخصيات، حتى اشتهرت في المسرح العالمي وأصبحت مرجعاً ثقافياً لا يستهان به، وترجمت للعديد من اللغات.
ولعل ما قدمه عبدالحليم حافظ وفريد الأطرش وأم كلثوم وفيروز وصباح وطلال مداح ومحمد عبده وعبدالكريم عبدالقادر وماجدة الرومي من أغانٍ خالدة في ذاكرة المتلقي الطربية، وما زال حتى وقتنا هذا يردد أغنياتهم الصغير والكبير ويشعرون بدفء الإحساس فيها كما لو أنها أغنية جديدة، بل ويرددها الإنسان العربي على اختلاف الجنسيات واتساع الفارق بين اللهجات ليس إلا دلالة على أن الفن يرتق الفجوات الثقافية بين الشعوب.
لقد كان الفن وما زال يعيش في ذاكرة الشعوب، ولذلك تجد مثلاً اليونانيين والرومان، قد بنوا الكثير من الأساطير حول الفن، وربما تحديداً حول الموسيقى، فقد قالوا إن رنات أوتار أبولون صدى صوت الطبيعة، رنات شجية ينقلها عن تغريد الطيور وخرير المياه وتنهدات النسيم وحفيف أغصان الأشجار، كما أنهم قالوا قتلت بنات الأحراج أورفيوس ورمين برأسه وقيثارته إلى البحر فطافا على الماء حتى بلغا جزيرة دعاها اليونان جزيرة الأغاني.
تلك الأساطير التي ابتدعتها الشعوب وظلوا وما زالوا يؤكدون على أنها خرافات وأوهام وتناقلوا فيما بينهم كقصص شعبية وأحاديث يحدثون بها الغرباء حين يزورون ديارهم، ليست إلا دليلاً واضحاً على التأثير الفني في أعماق الثقافات الشعبية. لذلك كانوا وما زالوا ينسجون تلك القصص الخيالية والوهمية عن تعلق الإنسان بفنه حتى أصيب بالطبيعة أو أن الطبيعة قد أصيبت به.
وعلى الرغم من ذلك فقد بدأنا نلحظ أن المنظومات الثقافية بدأت تتجاهل الفن وتنعزل عن بشكل متعمد على الرغم من الارتباط الروحي المباشر بين الثقافة والفن، وهذا الانعزال بدأ يتسبب في عزلة الفن وسيره وحيداً في طريق حياة معاكس للطريق الذي تسير فيه المنظومة الثقافية، وحين يلتقيان فإنهما يلتقيان في حفلة المتناقضات الثقافية الفنية، فيكون مهرجاناً يضم عدداً من الفعاليات الثقافية وضمنها بعض الندوات التي تختتم بتكسير الآلات الموسيقية والأعواد بشكل جسور جداً في هدم واضح للدور الفني في الثقافة. هذا وكأن حمل الآلة الموسيقية أشد خطراً من حمل السلاح في غوغائية مقززة، تجعلنا نغرق في البلطجة بدلاً من البحث عن أنسنة البشر عن طريق الفن كما تقول رسالة الفن دائماً وأبداً.
أخيراً أقول: إن تجاهل الفن كأحد روابط الثقافة لدى الشعوب قد يؤدي إلى طمس حضارة الشعب وإنسانيته بل وأنه قد يمحو جميع الهويات الثقافية التي سعى كثير من المثقفين للدفاع عنها وإبرازها كتعدد واختلاف وكمصدر لغنى الشعوب ثقافياً وفكرياً.
عادل بن مبارك الدوسري - الرياض
aaa-am26@hotmail.com *** تويتر : AaaAm26@