القافية مستودع أسرار النص، وهي موقف التقاط الشاعر أنفاسه، وذروة تأثيره وانفعاله، وفي تجربة الدكتور صالح الزهراني الشعرية تزخر هذه المستودعات بأسرار النصوص، حيث القوافي المتنوعة الغنية، ولكن هذه الأسطر تتأمل قافيةً قليلةً في الشعر العربي، وهي قافية التاء، على اختلاف أنواعها: مطلقة أو مقيدة.
والتاء حرف مهموس، والهمس في اللغة: الحسّ الخفي الضعيف، والتاء أيضاً من الحروف الشديدة الانحباسية، ويقال: همسُ الأسد إقدامه، ولهذا كله أثر في إيقاع التاء في عدد من القصائد، أثرٌ استدعي تأمل هذه الأسطر؛ لتحاول أن تتبّع الدلالات التي أضافها اختيار هذا الحرف في القافية.
قصيدة (أم أحمد) قصيدة منبرية، تشير إلى المدينة المنورة، وكيف تُطرَح القضايا على ظلال نخيلها، في قافية مطلقة موصولة بساكن:
يا أم أحمد أنهى الصبُّ دندنته
لكنه لم يزل يقتاتُ مشكلتَهْ
عمرٌ من السفرِ المضني يؤرّقهُ
ألا ترين على عينيهِ أسئلتَهْ؟!
لمَ اختار هذه القافية الصعبة؟! وقيَّدَ وصلها، والتقييد أعسر مطلباً من الإطلاق (كما يراه التنوخي)، ومع محاولة هذا الحرف الانحباسي الشديد المهموس أن يفتح الحبس وينطلق، إلا أنه يواجه قيد هاء السكت، في نصٍ يناقش القضايا بثقةٍ وإقدام ولكن بنبرةٍ منخفضة. هذا ما أكّدته التاءُ المهموسة وهي تشرع حركتها ونوافذها؛ لينفذ نور المكاشفة إلى حجرات النص، حيث الحديث الأهم: عن الجيل، وتعدد الرؤى، وحيرة المبادئ، وكثير مما اختُلف فيه، معنى ينفذ للمتلقي في بثٍّ هادئٍ، وعادة الغوص العميق أن يبتعد عن جلبة الأمواج المتلاطمة على السطح:
الجيلُ نصفان، مقتولٌ وقاتلُهُ
كلٌّ يصوِّبُ باسم الحقِّ أسلحتَهْ
حروبنا يا مدار الحب خاسرةٌ
فهل سيكسبُ هذا الجيلُ معركتَهْ؟
إذا استعادَ شريطَ الأمس أبصرهُ
سيفاً، تحسّسَ بعد السيفِ خاصرتَهْ
يبثّ الشكوى المتقبِّلَ الذي لا يقتضي حاله الحشد والتدافع، بل الوضوح في الترافع، شكوىً زادها هذا الشجن المهموس تأثيراً وصدقاً، فأودعتِ القافيةَ الصعبةَ أسرارَ العمقِ والثقةِ والسكينةِ والانفتاحِ معاً.
وتاء أخرى، أقرب إلى نفثة مصدور، انطلقت في قافية مطلقة، تناسب انطلاق البوح، وامتدادَ النداء:
يا حارسَ النورِ عيناكَ التي رأتا
فلم أقل لك: هذا الليلُ كيف أتى
رأيتَه أنت جوعاً في ملامحنا
وفي رؤانا وفي أحداقنا عنَتا
ما قلتُ إن احتلال الليل في دمنا
نارٌ على حطب الأوجاع ما خبَتا
خشيتُ أن تغفر الألفاظ موبقتي
وأن تقول جروحي: ليته سكتا!
هذه التاء منحت النص صوتاً خفياً إضافياً، مهموسا ينفجر من صمّام الألف، جرْسه احتياج الحائر للمنجِد، وإيقاعه حركة الساهر يسرج مصباحه، يبحث عن منفذ النور، محاط بالأسوار، محمّلٌ بالأشواق:
وقفتُ أسرج مصباحي وأغنيتي
وطال ليلي فيا ضوء الصباح متى؟
والشعر يا سيدي: جمرٌ وعاصفةٌ
لأنّه من لظى أوجاعنا نبتا
هدوء القافية وامتداد ألِفها استدعى إنصات المتلقي وأُلفتَه؛ ليشارك بعد كل بيت دهشة الشكل القادم، هدوءٌ يتجاوز العاصفة، ويبحر بعيداً عائداً للموطن الآمن.. وفي شعر التفعيلة يتكرر في بعض قصائده الوصل بالتاء الساكنة، التي يخفت همسها لتكون كهاء السكت، ضعفاً وخفوتاً، مثلها في قصيدة (رتابة):
يبدأ العرض ميتاً
فوق أشلاء صامدة
البدايات واحدة
والنهايات واحدة
بطل العرض واحدٌ
قصة العرض واحدة
مخرج العرض واحد
والجماهير راقدة!
فكلّ الصخب حولها ينتهي على خمودٍ لا يهتزّ لوابل الأحداث، أسكن هذا الانفعال المزدوج قافيةَ دالٍ جهورية، تتبعها التاء المهموسة الساكنة، في تلاؤم أخّاذ مع صور النص التي تغلي لها العاطفة، فتصطدم بكائنات رتيبة جامدة. كانت القافية شبه جهورية/شبه مهموسة؛ كثّفت ظلال النص على شبه موتٍ لِشِبْهِ حياة..
وفي قصيدة (استراتيجية) وصلَ الياءَ بالتاء الساكنة، مما زاد حنق النص على ضعف الرعاة:
كان يؤمن أن الذئابَ إذا ما رنتْ للقطيع
استنامت على الدربِ حتى عبور الكباشِ ومالت على القاصيَةْ
كأنّ هذه السكون تتعمّد استيقاف المتلقي للتركيز على الفكرة لا الإيقاع، فالصورة أجدر بالمتابعة من الصوت، صور تتصاعد إلى لقطة الختام:
فضيّع نصف القطيعْ
ونامَ على الناصيَةْ
ضعف الياء وسكون الوصل نقلا اختناقاً بحال من خسر حقوله فتوسّد النواصي..
وفي قصيدة (أغنية) وشى إيقاع التاء المنوّنة المنصوبة بشدّة إباء الشعر وكبريائه، مقارنة بتاء ساكتةٍ ساكنة، لشعر حين يتأثر ويريد يدندن أغنية، يترنم شقشقة أدعية، كلماتها ثقة حادّة وحاسمة، أن التاء واحدة والشعر واحد، لكنّما المبادئ متباينة، ثم يقطع بهُويّة هذه الأغنية أنها:
وُلدَتْ زفرةً، شفرةً فارساً لا يجيد النكوص ولا يفهم التسويةْ حين يرضى كثيرٌ من الشعر أن ينحني صاغراً يمسح الأحذيةْ.
وبعد، فهذه القافية كثّفت الفكرة لّما هدّأَتِ الإيقاع، واسترعت الانتباه لِقيمةِ معانيها عندما أخفضت الصوت حولها، جاءت مع القضايا العميقة، والمبادئ الثابتة، تزيد رسوخها وترفعها حباً وطواعية، وربما كانت تلك التاء بضعةً من فكر شاعرها، حين يُعرض اليقين بلا ضجيج، ويُعلن المبدأ أهدأ صوتاً بلا تنازل، في شعر يهززك حتى (بعد) سماعه، فكثير من الصخب المنبري يُنسى، ويبقى الرأي الهادئ أفصح بياناً، وأوضح برهانا، وفي كلٍّ، تظلّ القوافي مستودعاتٍ مليئة بالأسرار والذخائر والبصائر..
نايفة العسيري - الرياض