أكتب هنا عن رحيل الصديق الكاتب الساخر والسينوغراف والمسرحي غازي القهوجي، فيما كنت أبحث في صفحة الثقافة لصحيفة الجزيرة عن مقالته الأسبوعية فإذا بي أقرأ نبأ رحيله عن الدنيا وما فيها.
عرفته في بيروت ومن ثم في أثينا حيث صمم لي أزياء تاريخية لبعض أفلامي، وأتذكر طريقته في اكتشاف طبيعة الأزياء والتي أستفدت كثيراً من رؤيته للتاريخ في طريقة كشف خفاياه الضائعة بسبب كون التاريخ نقل إلينا شفاهاً، حيث قال فلان عن فلان عن فلان.. فكان هو يجمع مقول القول ويبحث فيه ويكتشف حقائق الألوان وطبيعة الملابس والبناء ويصممها في شكل يقرب من الحقيقة بل وتظن أنها الحقيقة التاريخية بعينها، فيما كثير من المسلسلات التلفزيونية والأفلام العربية التاريخية ليست فقط لا تقنع المتلقي بل هي تثير إستغرابه فكان يقول، كيف كان يمشي الخليفة والسلطان وملوك الزمان وهم في كل تلك الكمية من الملابس والجبب والسراويل والعمائم وفي تلك الأجواء الحارة في المدن القديمة ووسط غبار التصحر والركب على الخيول، وهذا الأمر لا ينعكس على الشخصيات التاريخية بل ينعكس على من يتقمص تلك الشخصيات من الممثلينن إذ كيف يمكنه أن يحرك يديه ويلتفت ويحقق الحركة الرشيقة!؟ اتذكر هذا الحوار دار بيني وبين الدكتور غازي قهوجي في أثينا في منطقة «غليفاذا» على ساحل البحر. وبهذا حسمنا القناعة في عدمها بما يقدمه التلفاز عن ملابس أجدادنا وحياتهم اليومية. ومن هذا المنطلق سعينا إلى إعتماد الملابس البسيطة التي تنسجم مع ألوان حياتنا وطبيعتنا الصحراوية وحتى المدينية في شكلها القديم.
بدأنا العمل.. ثم وبعد فترة وبسبب الحروب الكارثية التي مرت بها المنطقة انقطعنا عن التواصل زمنا، حروب لبنان والاحتلال الإسرائيلي لبيروت وحرب الخليج وإنعكاساتها على المزاج الدولي والذي حاصرنا بأشكال مختلفة صرنا فيها نستجدي الهوية والوثيقة ونتحايل على طرق الإقامة خارج أوطاننا. بسبب هذا الزخم من المتاعب كدنا أن ننسى بعضنا. سافر هو إلى وطنه لبنان وبقيت أنا في اليونان حيث لا وطن لي غير أوطان الترحال، فأصدرت كتاب «مذكرات جواز سفر» وأرسلته إليه. كان كتابي هذا نكتة عظيمة وقال لي كان ينبغي عليك أن تجعل منه كتابا ضخما لشد ما هو مثير ومشوق وكان الكتاب مليئا بأختام مطارات وحدود العالم. والكتاب كتبته على لسان جواز سفري غير العراقي! وبالفعل اليوم أنا بحاجة إلى أن أكتبه مرة ثانية وأتوسع فيه وهو أيضا، أي الكتاب، ليس بعيداً عن طريقة غازي قهوجي في الحديث وليس بعيداً عن أسلوب غازي قهوجي في الكتابة.
بسبب هذه الهموم والتي إنقطعنا فيها حقبة من الزمن، حتى وردتني رسالة من دبي مصدرها غازي قهوجي. أرسل هذه الرسالة إلى مجلة دبي الثقافية بعد صدور روايتي «على أبواب بغداد» من إصدارات دار صحارى تقدمها مجلة دبي الثقافية كهدية من المجلة. وقعت الرواية بين يديه وصار يبحث عن عنواني الذي فقده.
كنت أقرأ له في ثقافية الجزيرة وتمنحني مقالاته الإبتسامة. أسلوب جميل وبناء متقن وأفكار مركزة وجمل برقية في الكتابة تمثل ضربات على وتر الجراح العربية والانسانية.
كان غازي قهوجي في كل حياته ساخراً مما يجري حولنا ومتوجساً الخيفة من الغد، وهو يعتقد أننا نعيش حقبا تغلب عليها الكوميديا وبالذات الكوميديا المرة ولذلك فإن التعبير عنها بالجدية ومناقشتها بالجدية المألوفة وتحديد مستقبلها بالجدية الموضوعية هو شأن غير مقنع، ولذلك لجأ إلى المقالة القصيرة الساخرة واللاذعة والتي تكشف الحقائق بالإبتسامة ثم الضحك مما يجري حولنا من أحداث ولكنه ضحك كالبكاء!
بعد أن أعدنا التواصل وصار يبعث لي مقالاته السابقة التي كان ينشرها في بيروت أبان فترة الحرب والمشاكل في لبنان وكنت أقرأها في فترات السحر والفجر حيث اعتدت النهوض مبكراً لقراءة الكتابات الحلوة التي كان غازي قهوجي يتقنها بفنه الساحر والساخر وقدرته على إستنباط المهزلة من وسط تراجيديات الواقع.. وصرنا نتكاتب ونتعرف على ما خسرناه في فترات الحروب الكارثية التي حلت ولا تزال تحل على المنطقة بطرائق مدمرة لا يخفف من قساوتها سوى مقالات غازي قهوجي الساخرة.
أعدنا التواصل عبر مكاتيب الحاسوب، وليس عبر المراسيل التي يحملها «البوستجي»
وبقيت أغنية «البوستجيه إشتكوا» مجرد نغم لم نقف كثيرا أمام كلماته.. ظلت أغاني الرسائل تحمل رومانسية الحياة البسيطة الأولى.
«البوستجية إشتكوا.. من كثر مراسيلي،
«وعيوني لما بكوا.. ذابت مناديلي»
حقيقة صديقي المبدع الساخر والجاد حد السخرية المرة أو الكوميديا السوداء، غازي قهوجي، مع أيماني بأن كل نفس ذائقة الموت، لكنني فوجئت برحيلك.. وبكيت فجراً حين قرأت الخبر.
وعيوني لما بكوا ..!