تقديم المترجم:
وصلتني العديد من الرسائل تطلب نشر المزيد من كتاب «الأزهر والسياسة» الذي لا يزال تحت الترجمة. ويسعدني أن أقدم للقراء الكرام ترجمتي لهذه الدراسة الهامة عن علاقة مؤسسة الأزهر بالدولة المصرية؛ وهي دراسة نوعية من تأليف الباحث المصري الألمعي الدكتور تامر مصطفى، وهو أستاذ مشارك في العلوم السياسية في جامعة سايمون فريزر، فانكوفر، كندا. ونشرت الدراسة في فبراير عام 2000.
الأزهر والدولة:
من يهيمن على من؟
يعدّ الأزهر، تقليديا، المركز المصريّ الأكثر احتراما وتأثيرا للدراسات الإسلامية. وقد تبنّى الأزهرُ مواقف جريئة على نحو متزايد لمعارضة سياسات الحكومة المصرية، طوال منتصف عقد التسعينيات. لقد عارض الأزهرُ سياسة الحكومة حول مجموعة متنوعة من القضايا الحساسة؛ بما في ذلك التخطيط السكاني (أي السيطرة على نمو عدد السكان)، وختان الإناث، والرقابة على الفكر. أكثر من ذلك، لقد تحدّى الأزهرُ، مباشرة، الحكومةَ في منتديات دولية رفيعة المستوى؛ مثل «مؤتمر الأمم المتحدة الدولي للسكان والتنمية»، الذي عقد في القاهرة في سبتمبر 1994. وكانت هذه المعارضة الواضحة مدهشة، نظرا لقدرة الحكومة المصرية الهائلة في الماضي على التلاعب بالأزهر والهيمنة عليه. فعلى مدى القرن الماضي، وتحديدا منذ انقلاب الضباط الأحرار عام 1952، هيمنت الحكومة المصرية على الأزهر بالكامل؛ ليصبح تقريبا ذراعا للدولة من خلال عمليات طرد المشايخ المعارضين للتحديث والتحكم بالموارد المالية للأزهر، وكذلك عبر اكتساب القدرة على تعيين أصحاب المناصب القيادية في الأزهر. لقد استفاد الرؤساء الثلاثة جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك من هذه الهيمنة على الأزهر، واستغلوها لاستصدار فتاوى تشرعن سياساتهم الجدلية؛ ولكن مع معرفة مثل هذه الهيمنة الهائلة للدولة على الأزهر، كيف يمكن تفسير زيادة معارضة الأزهر للحكومة في منتصف التسعينيات؟!
تجادل هذه الدراسة في أن زيادة العنف الإسلاموي، خلال 1992-1997، منحت الأزهر مزيدا من النفوذ والتأثير على الحكومة. لقد كان الأزهر على استعداد للدفاع عن الحكومة في مواجهة خصومها الإسلامويين العنيفين الذين تحدوا أيضا منزلة الأزهر في المجتمع المصري؛ ولكن الأزهر استغل هذا الوضع الحرج بذكاء للضغط على الحكومة، لكي يجبرها على تنفيذ سياسات (أي إصلاحات) إسلامية داخلية معتدلة. لقد اُضطرت، بل أُجبرت الحكومة على قبول هذه الصفقة؛ لأنها أصبحت تعتمد اعتمادا متزايدا على الأزهر لمنحها الشرعية الدينية. أكثر من ذلك، لقد اكتشفت الحكومة أن التلاعب بالأزهر وإخماد معارضته العلنية لسياسة الدولة يقوّض نفوذ الأزهر داخل المجتمع المصري. ومن ثَمَّ، يضعف بل يدمّر تماما قدرته على تفنيد حجج خصوم الحكومة، وخاصة الإسلامويين. وأخيرا، حصل الأزهر على تنازلات كبيرة من الحكومة؛ عبر تشكيل تحالفات واسعة وغير رسمية مع مسؤولين في الدولة متعاطفين مع الأزهر في سعيه إلى تحقيق مصالحه.
يستعرض الجزء الأول من هذه الدراسة زيادة سيطرة الحكومة المصرية على المؤسسات الدينية، والأثر المترتب على تلك السيطرة المتزايدة بخصوص منزلة هذه المؤسسات في المجتمع المصري. ويستكشف الجزء الثاني كيف أسهمت هيمنة الحكومة على المؤسسات الدينية في بروز الجماعات الإسلاموية المتطرفة التي تحدّت المؤسسة الدينية وطعنت في شرعيتها. ويكشف الجزء الثالث كيف استفاد الأزهر من الصراع بين الحكومة والإسلامويين المتطرفين، لتقوم هذه المؤسسة الدينية – بدورها – بتحدي الحكومة وتحصل على تنازلات كبيرة منها. وأختتم الدراسة بتحليل العلاقة بين الحكومة والأزهر منذ تعيين محمد سيد طنطاوي شيخا للأزهر، مع خاتمة نظرية عن مفارقة العلاقة بين سلطة الدولة والسيطرة الاجتماعية(*).
تزايد سيطرة الدولة
على المؤسسات الدينية
منذ إنشائه في عام 973م، كانت للأزهر علاقة مضطربة مع حكام مصر(1)؛ فقد عملت جامعة الأزهر لعدة قرون كمؤسسة «وسيطة» بين الدولة والمجتمع، حيث كانت تتعاون في بعض الأحيان مع حكام مصر وأحيانا تعارضهم. ونظرا لأن الأزهر يعدّ أهم مؤسسة دينية مصرية، فقد واجه دائما ضغوطا هائلة من الدولة لإضفاء الشرعية على حكمها؛ ولكن الدولة لم تملك موارد كافية لتحدي استقلاليته بصورة مستمرة. وطوال القرنين التاسع عشر والعشرين، تدخلت الدولة المصرية تدخلا متزايدا في شؤون المؤسسات الدينية.
وكان محمد علي (ح. 1805-1848) أول حاكم مصري تحدى تحديا منهجيا سلطة المؤسسات الدينية في مصر. وكجزء من برنامجه لبناء دولة مصرية حديثة وتحدي الدولة العثمانية للسيطرة على الإمبراطورية، أعاد محمد علي تنظيم مِلكية الأراضي وأمّم 600.000 فدان من أراضي الأوقاف(2) التي كانت سابقا تمول بناء المساجد والمدارس الدينية وتشكل الأساس الاقتصادي للعلماء (3). لقد أضعف هذا ا لإجراء استقلالية العلماء وجعلهم أكثر اعتمادا على تمويل الدولة. وبالإضافة إلى ذلك، أسس محمد علي نظاما قضائيا مستقلا للتحايل على سيطرة العلماء على المؤسسات الدينية. وجاءت ضربة أخرى كبيرة ضد الأزهر مع تأسيس محمد علي نظام التعليم العلماني للأطباء والمحامين والمهندسين وبقية المهن البيروقراطية الحكومية (4). وقلصت هذه المؤسسات العلمانية الجديدة فرص خريجي الأزهر في سوق العمل، وأضعفت تأثيرهم في البيروقراطية الحكومية الآخذة في التوسع(5).
واكتسبت الحكومات المتعاقبة المزيد من السيطرة على الأزهر، عبر قوانين إعادة تنظيمه في أعوام 1896 و1911 و1930. وأدت هذه القوانين إلى تحول جذري لهيكل الأزهر اللامركزي، ودوره في المجتمع المصري. وأدت عملية إعادة تنظيم الأزهر إلى جعل إدارته مركزية، وأعطت شيخ الأزهر(6) المزيد من السلطة على مراكز قطاعاته الكثيرة (7)، كما زادت هذه القوانين نطاق سلطة الأزهر على التعليم الديني، من خلال منحه المسؤولية عن كلية تدريب المعلمين وكلية الشريعة(8). وعبر جعل السلطة مركزية داخل الأزهر، سهّلت عمليات إعادة تنظيم الأزهر المتعاقبة تلاعب الدولة بالأزهر وتحكمها فيه؛ ولكن في الوقت نفسه حققت المركزية مصالح لبعض الجهات داخل الأزهر، مثل «الرواقات» و«مكتب شيخ الأزهر». هذه المصالح المشتركة بين الحكومة وجهات مؤثرة داخل الأزهر تفسر لماذا مال بعض شيوخ الأزهر إلى التعاون مع الحكومة؛ ولو في ظل زيادة التنظيم (التحكم) الحكومي بالمؤسسات الدينية.
...يتبع
** *** **
هوامش المترجم:
(*) أي إن المستويات العالية لفرض سلطة الدولة بالقسر يمكن أن تقوّض، في مفارقة عجيبة، سيطرة الدولة على المجتمع. (العيسى)
ترجمة وتعليق: حمد العيسى - المغرب - Hamad.aleisa@gmail.com