نظرنا إلى «مانو» وقوانينه من زاويتين في الجزء السابق، وبقيت زاوية ثالثة، هي أن مانو وضع الكثير من القوانين الهامة المنظمة للمجتمع، ومنها مثلا أنه حل مشكلة (الإعسار المالي)، وأريد أن أستطرد هنا قليلا، حيث إننا في السعودية نعاني من تمثيل المدين وإخفاء أمواله أو تهريبها للخارج، ثم يطالب بـ (صك الإعسار) وهو صك تصدره محاكمنا الشرعية، ويحمي المدين من ملاحقة الدائنين، وأعتقد أن مجتمعات كثيرة تعاني من هذه الظاهرة، ويدخل فيها تجاريًا موضوع (الإفلاس الاحتيالي). والمهم هو أن «مانو» حل هذه المشكلة، بحل أراه جميلا وواقعيًا، حيث ألزم المدين المعسر بالعمل عند دائنه بما يتناسب مع مقدار الدين، كتعويض للدائن عن حقوقه الثابتة.
كما وضع مانو بعض القوانين التجارية التي تعطي للسوق مرونة، ومنها أن للبائع أو المشتري العدول عن البيع، خلال عشرة أيام من تاريخ التعاقد. وأصدر «مانو» أيضًا العديد من التشريعات الأخرى، فقرر مثلا عقوبة (القتل) كجزاء لسرقات معينة، كسرقة الجواهر الثمينة، خاصة وأنها ملك للبراهمة في اعتقادهم، ولذلك يقتل سارقها حتى لو كان من نفس الطبقة البراهمانية.
ومن قوانين مانو، أن عقوبة الزنا تتفاوت بتفاوت أحوال الزناة، فقد تكون العقوبة غرامة أو عقوبة جسدية، وأحيانًا تصل للقتل، إذا مارس الشخص الزنا -مثلا- مع أحد من طبقة أعلى من طبقته.
ومن قوانينه الأسرية، أن الرجل له حق تأديب زوجته وأولاده أو عبيده، ولكن بضوابط، فلا يحق له ضرب أحد منهم على رأسه مثلا؛ لأن الرأس مكان العقل والعلم والمعرفة.. ومن قوانين «مانو» أيضًا، أنه ألزم الزوج بالصبر على زوجته العقيم، فلا يحق له تطليقها إلا إذا استمر العقم أكثر من 7 سنوات.. ولا ينبغي للزوج أن ينصرف إلى غير زوجته الصالحة، إلا إذا كانت الزوجة مريضة مرضًا طويلا لا يُرجى برؤه.
كما يُحرّم «مانو» المسكرات بمختلف أنواعها على كلِّ أفراد الطبقات العليا.. ويحرّم أيضًا (التعامل بالربا) وفق مفهوم محدد، فلا يجوز لأي إنسان من طبقة البراهمة أو طبقة المحاربين أن يتعامل بالديون المرتبطة بفوائد وفق شرح معين.
وأتذكر عمر بن الخطاب حين أسقط حدَّ السرقة في عام المجاعة، وأنا أقرأ في قوانين «مانو» أنه أسقط بعض الوصايا والعقوبات في أزمنة المجاعة والعوز المدقع.. كما نصّت تعاليم «مانو» على كثير من النواحي الاجتماعية الأخرى، المتعلقة بالحوامل والأرامل والزواجات والطلاق... الخ.
والأهم هو أن «مانو» قسّم المجتمع الهندي إلى أربع طبقات، الأولى طبقة البراهمة المميزة ذات النسب الإلهي، ومنهم الكهان المقدّسون وحماة الدين ودور العبادة.. والثانية طبقة الجنود والمحاربين، التي تعرف بـ «الكشتريا» وهم أفضل الطبقات بعد البراهمة، ومنهم الملوك وحماة الوطن.. والثالثة طبقة (الفيشيا) وهم التجار وأصحاب المواشي والبيوع المختلفة، والرابعة طبقة الشودرا، وهي طبقة الصناع والحرفيين الأذلاء، الذين يقسو «مانو» في قوانينه عليهم إذا ارتكبوا أيَّ خطأ أو حاولوا تجاوز حدود طبقتهم.
ويضيف البعض طبقة خامسة، أقل قيمة من الطبقة الرابعة، وهي طبقة المنبوذين، الذين يساوون بالحيوانات أحيانا، فقد حكم «مانو» على المنبوذين –رغم أن كثيرًا منهم من القبائل الهندية الأصلية- بالنفي إلى خارج القرى والمدن، ولا يحق لهم إلا استخدام الحمير والكلاب والآنية الرديئة البالية وما شابه ذلك..
والحقيقة هي أن الحديث السابق عن «مانو» والبراهمة، يحتم علينا الإشارة إلى نقطتين، الأولى هي أن كلمة (البراهمية) يدخل تحتها الكثير مما نجده في التراث الهندي عامة، والفلسفي الديني منه على وجه الخصوص. والثانية هي أن المسمّى الآخر الشائع للبراهمية هو «الهندوسية».
إذن: البراهمية أو (الهندوسية) تقوم على أساس أن «براهما» هو الخالق، وأن «فيشنو» هو إله ممتلئ بالحبّ الذي يغذي الحياة، وكثيراً ما يصوّرونه على هيئة إنسان يمد يد العون للبشر، وخلاصة مهمته عندهم الحفاظ على العالم.. ولفيشنو أعوان من الآلهة، ومنهم: راما، وكرشنا، وغيرهما؛ ولكن فيشنو له من القدسية والمكانة أكثر من مساعديه. كما يبرز عندهم إله يسمّى «شيفا» وهو المسؤول عن الفناء والدمار في عقيدتهم، وهو المهلك للعالم ووظيفته عكس وظيفة فيشنو.
وليس هناك أي موضوع يشغلهم بنفس الدرجة التي يحتلها موضوع «التناسخ» كما أسلفنا، فمصير النفس هو القضية الأولى في ما ظهر لي، حيث تنتقل الأنفس من بدن إلى آخر، وأعمال الإنسان هي التي تحدِّد مصير روحه، فإذا سار في طريق الخير وعمل بالفضائل انعتقت روحه من دورة الحياة في الأجساد واتحدت بالروح الكلية.. وإذا لم يفلح في ذلك، أو سار في طريق الشر والرذيلة، فإن نفسه ستبقى سجينة في هذه الدورة تنتقل من جسد إلى آخر.
ولذلك يصبّون جلّ اهتمامهم على النفس؛ لأنَّ النفس في معتقدهم يمكن أن ترقى إلى الكمال، أمّا البدن فهو للنقص دائمًا وأبدًا، ولكي يحقّق الجسد درجة ما من التطهير ينبغي عليه أن يستغل وجود الروح فيه، ولهذا قالوا بحرق البدن عند الموت..
والنفس عندهم -رغم أنَّها قادرة على الكمال- لا تخلد كجوهر مستقل، وخلاصها يتمّ بطرق، منها -مثلا- ممارسة رياضة «اليوغا»، وهذه الرياضة رياضة روحية وجسدية، ففيها قسوة شديدة على البدن، وتعويد للنفس على الصبر والثبات بهدف تيسير اتحادها بالنفس الكلية.
والحقيقة أن فلسفة اليوجا من أقدم فلسفات الهند، وخلاصة ما تفعله هو تعليم الإنسان الخشونة والتقشف والقسوة؛ بالإضافة إلى تعليمه فن تنظيم النفس ومهارة التركيز والصفاء الذهنيين.. والغاية من كل ذلك هي الوصول إلى مرحلة (الاتحاد مع براهما) وهي القوة العظمى التي تسعد من يصل إليها من البشر، فهي عندهم مرحلة السمو الروحي بعد تحرير البدن من أغلال الشهوات والأطماع وآلام الرغبات الجامحة والمصالح الدنيوية المتعبة، وقد لا تكفي حياة واحدة لإدراك هذا الاتحاد؛ لأنَّه بحسب مبدأ «الكارما» قد تتطلب أفعال العبد السيئة ولادات متتالية في صور إنسانية أو حيوانية.
ومن مظاهر التقديس عند الهندوس، تقديس نهر «الغانج» الذي يحجّون إليه سنوياً بقصد التطهّر بمائه والاغتسال من الذنوب، وكذلك يلقون فيه رماد موتاهم بعد أن يتمّ إحراق أجسادهم، فالدفن للأبدان ليس معتمداً ولا مهمًا عندهم. وكذلك يقدّسون الأبقار ولا يأكل غالبهم لحومها.
وتجدر الإشارة إلى وجود فلسفات أو ديانات فلسفية انشقت عن «الهندوسية» أو تفرَّعتْ عنها، ومن أبرزها (الديانة الجينية) التي جاءت كثورة ضد إيغال الهندوسية في التمييز الطبقي، فالجينية تعترض على ذلك التمييز؛ لأنه جعل المجتمع يتحوّل إلى حلبة مصارعة كبيرة بين الطبقات، مليئة بالأحقاد والكيد والشرور في نظر الجينيين.. فرفضت «الجينية» الكثير من تعاليم الهندوسية وعلى رأسها الطبقية. ولكن «الجينية» لم تنجح بنفس درجة نجاح غيرها من فلسفات الهنود، حيث بقي تأثيرها منحصرًا في عدد قليل من المعتنقين.
وترتكز الجينية على الرهبة من موضوع تكرّر الموالد، ولذلك دعت إلى التحرر من قيود الحياة، وقيود القيم المختلفة كالعيب والإثم وما شابه، فهي تحث أتباعها على ممارسة رياضات جسدية قوية عنيفة، وتأملات روحية شديدة العمق، بهدف تخفيف وهج نور الحياة فيهم. ورغم اعتقاد الجينيين أن ديانتهم ساهم في تأسيسها عدد كبير من الأشخاص، إلا أن «مهافيرا» يعتبر المؤسس الحقيقي للجينية، وقد ولد حوالي سنة 600 ق.م، وكان في بداية عمره شابًا مدللا يتنعم بملذات الحياة؛ لأن والده أمير، ولكنه بدأ في رهبانيته حين بلغ الثلاثين من عمره تقريبًا، خاصة حين توفي أبوه، فترك ولاية العهد لأخيه، وهجر كلَّ مظاهر الملك وحلق شعره وخلع مجوهراته وملابسه الثمينة، وقرر الدخول إلى عالم الزهد والورع والتقشف؛ فأصبح يصوم الأيام المتتالية، ويمشي في بلده عاريًا، وانصب تركيزه على الرياضات الجسدية الشديدة والتأملات العميقة، وكان يعيش على الصدقات والمساعدات.
والجينيون لا يعترفون بكثير من آلهة الهندوس الرئيسية، ولذلك وُصف مذهبهم بالمذهب الإلحادي؛ ولكن هذا فيه شيء من الخطأ في نظري، حيث وجدتُ عندهم إيمانات بعدد من آلهة الهند، كما أن الكثيرين منهم ألّهوا عددًا من رموزهم وما شابه، فلا أظن أن (فكرة الألوهية) كانت غائبة تمامًا عندهم.
والزبدة أن الجينية فلسفة عقلية متحررة؛ تحث أتباعها على أن يكونوا مسالمين ونباتيين، فلا يأكلون اللحوم ولا يقتلون الحيوانات، ولا يخوضون الحروب حتى لا يسفكوا دماء الناس.. إنهم يؤمنون بأن الإنسان حين تموت رغباته يصل إلى الخلاص المؤدي إلى الحياة الخالدة، التي قد تحصل في الدنيا بالتمرين والرياضة وقتل الشهوات وقهر المشاعر والأحاسيس العاطفية، أو بالموت المؤدي إلى الفوز بالسرور الخالد البعيد عن الهم والألم، ومن هنا رفع بعضهم من قيمة (الانتحار) واعتبروه أمرًا لا يتاح إلا للخاصة منهم، ويصل بهم السعي إلى قتل العواطف والأحاسيس إلى سلوكيات رهيبة عجيبة أخرى، كالتعرّي، حيث يسير بعضهم في الطرقات دون ملابس، بلا حياء أو اكتراث، ولذلك نجد بعض رهبانهم عراة دائمًا، كنتيجة لعقيدتهم من فكرة قتل الخجل والتعلق بالدنيا، بوصفها الفكرة المؤهلة للفوز والخلود.
نتوقف هنا، ونواصل الحديث في الجزأين القادمين عن الفلسفتين «المادية» و «البوذية» في بلاد الهند.
وائل القاسم - الرياض