-1-
انتهيتُ في مقالتين سابقتين عن التعليم إلى ثلاث ملحوظات، أختصرها في الآتي:
1 - أنّ جميع الأطراف (من داخل العملية التعليمية وخارجها) على يقين بفشل التعليم في بلادنا، ولكلِّ طرفٍ طريقته الخاصة في التعبير عن هذه القناعة المخيفة!
2 - أنّ محاولة فهم مقولة الفشل تفضي بنا إلى أنّ التعليم لدينا (وفي غالب الدول العربية) محكومٌ بمنطق «تسيير الأعمال» وليس بمنطق الإبداع؛ لذلك يشعر كلّ طرف بآلية التعليم ونمطيته في هذا الزمن المسكون بالحركة والتجدّد.
3 - أن وزارة التعليم لم تتحرك لمساءلة مقولة الفشل فضلاً عن معالجتها، لا بل إنّ تصريحات قياداتها في السنوات الأخيرة تحاول إثباتها على استحياء، بلغة تقول في كثير من الأحيان ولا تقولُ!
وإذا جمعنا هذه المعطيات الثلاثة إلى بعضها فسنجد أنفسنا أمام تعليم يعاني من مشكلة عميقة، من مشكلة في القلب إن صحّ هذا التعبير؛ لا علاقة لها بالدعم المادي، ولا بالبيئة المدرسية، ولا بنوعية المناهج، ولا بتأهيل المعلمين، بل على العكس كلما توفرت هذه العناصر المهمة تضاعفت المشكلة وانكشفت وصار من السهل تحسّس آثارها؛ لذلك لم يفلح تغيير الوزراء (ستة وزراء من عام 1395هـ إلى اليوم)، ولا تخفيض نسبة المدارس المستأجرة (وصلت قبل سنة إلى نسبة 20 % تقريباً من مجمل مدارس المملكة)، ولا التغيير العلمي والفني في المناهج، ولا مضاعفة الميزانيات المخصّصة للتعليم (يشير بعضهم إلى أنّ ميزانية التعليم اليوم تساوي كامل ميزانية الدولة قبل عشرين عاماً). كل ما سبق لم يغير في وضع التعليم شيئاً؛ لأن نجاح التعليم مرتبطٌ بوضوح رؤيته، وقدرتها على استحضار مشكلات وإمكانات الحاضر والمستقبل.
-2-
إنّ تعامل وزارة التعليم مع واقع التعليم لا يختلف عن المنطق الذي يحكم تعامل باقي وزاراتنا مع مفاهيم جوهرية كالنهضة والتنمية، فكلّها تسلّط الضوء على الجانب المظهري، فتركّز على العامل المادي الذي يغيّر شكل الشيء ولونه ولا يتجاوزهما إلى معناه؛ ولذلك تشفّ تصريحات مديري التعليم في مطلع كلّ عام دراسي عن المرئي في البيئة التعليمية (جاهزية المدارس لاستقبال الطلاب - تحسين البيئة المدرسية - اكتمال المعلمين - انتهاء أعمال الصيانة - إرسال الكتب - جودة البنية التحتية)!.. وباستثناء التصريحات المثيرة للجدل التي أطلقها الوزير محمد الأحمد الرشيد - رحمه الله - والأمير خالد الفيصل في المدة الوجيزة التي تولى فيها حقيبة التعليم، فإننا لا نجد تصريحات تستهدف الجانب المعنوي في التعليم، فضلاً عن فلسفته.
ولو تدبرنا الجهد الكبير الذي بذلته وزارة التعليم بداية من عام 1395هـ إلى اليوم لوجدناه في الغالب مسكوناً بهاجس الوسائل، ومشغولاً بها في جميع خططه (التطويرية)، وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت إننا لا نجد على مدى أربعين عاماً التفاتة جادة من وزارة التعليم إلى مراجعة فلسفة التعليم.. وإذا كان في مقدورنا الاعتذار لكلّ وزير بعذر ينجيه ويخلي مسؤوليته، فإننا لن نستطيع تقديم عذر مقنع لأربعين عاماً من عمر هذا الوطن، تغيّر فيها الإنسان وقيمه وتغيرت الأشياء من حوله، بينما ظلّ التعليم على صورته الأولى، إلا من تغيرات (شكلية) أو (جوهرية محدودة)، لم تغير في واقعه العام شيئاً!
-3-
إن جميع التجارب التعليمية الرائدة في العالم قامت على مراجعة علمية جادة لفلسفة التعليم، ولم تكن الوسائل (التي نهتمّ بها اليوم) إلا عوامل دعم ومساندة في تلك التجارب، فالتعليم السنغافوري على سبيل المثال مرّ بأكثر من مرحلة مهمّة في عهد لي كوان يو، وأهمّ هذه المراحل مرحلة البدايات، التي أَسْنَدَ إلى التعليم فيها مهمةَ بناء شخصية سنغافورية معتزة بهُويّتها (الصينية، الملاوية، الهندية) وقادرة في الآن ذاته على (الانخراط) في مشروع وطني طموح، يتجاوز بمراحل كبيرة الإمكانات والقدرات الطبيعية لسنغافورة.
وفي مرحلة تالية وضع (يو) للتعليم رؤية مختلفة، قائمة على التحصيل النوعي الذي تتطلبه نهضة سنغافورة، وفي هذا السياق ابتكر التعليم السنغافوري معايير دقيقة لتحقيق هذه الرؤية، ولقياس درجة كل متطلّب من متطلّباتها الرئيسة، فأضحى الطالب السنغافوري وفق هذه الرؤية جزءًا من أسرة تعليمية كبيرة، يعتمد عليها في اكتشاف مواهبه وقدراته، وفي وضع خطة دقيقة لمستقبله التعليمي والوظيفي، وفي تنفيذ هذه الخطة أيضاً.
وفي السنوات القليلة التي سبقت دخول الألفية الثالثة، عقد في سنغافورة المؤتمر الدولي السابع للتفكير، بمشاركة أكثر من أربعين دولة يمثّلها مئات الخبراء والمتخصصين في مجالات التعليم المختلفة، وفي هذا المؤتمر طرحت القيادة السنغافورية رؤية جديدة للتعليم ممثّلة في (التفكير المستمر)، ورُتّبت الخططُ لاحقاً على أساس هذه الرؤية، ومع الأيام أصبحت هذه الرؤية حاضرة في ذهن المعلم بقدر حضورها في ذهن رئيس الوزراء، وأصبح ولي الأمر نفسه شريكاً في هذه الرؤية، بل إن جميع وزارات الدولة وقطاعاتها توجهت لخدمة هذه الرؤية، فكان لسنغافورة ما أرادت، ليس على مستوى الصناعة والاقتصاد وحسب، بل على مستوى الشخصية المتميزة للمواطن السنغافوري (لمزيد من التفاصيل: مجلة المعرفة 7 سبتمبر 2011م).
ولو انتقلنا إلى التعليم في بلادنا وطرحنا سؤالاً عن الرؤية التي يعمل التعليم من خلالها اليوم لارتدّ علينا السؤال صدى؛ إذ لن نجد من يملك الإجابة الدقيقة عنه إلا بالشعارات الفضفاضة، والكلام المعتاد الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، والخلط المخجل بين الرسالة والرؤية؛ لذلك يملأ كثيرٌ من قيادات التعليم حقلَ الإجابة عن هذا السؤال بحديثٍ رتيبٍ عن المنجز المادي، المتمثّل في بناء المدارس، وزراعة الملاعب، وصيانة المرافق، وتطوير المناهج، وتأهيل المعلمين، وكلها - رغم أهميتها - جسد بلا روح، تقبل علينا إذا أقبل النفط وتدبر إذا أدبر!
لذلك لا يمكن أن نتحدث عن مرحلة جادة لإصلاح التعليم أو تطويره إلا حين تتضمن كلمة وزير التعليم في مطلع العام الدراسي القادم رؤية جديدة للتعليم، تستشعر الأخطار الكبيرة التي تحيط بشبابنا وفتياتنا، وتستحضر متطلبات العقدين القادمين على جميع المستويات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا بد أن تكون هذه الرؤية مرتبطة بالإنسان، تبدأ منه لتنتهي إليه، بحيث يكون هدفها الرئيس صناعة شخصية واعية قادرة على التفكير والنقد وابتكار الحلول للمشكلات التي تواجه الفرد والمجتمع.
خالد الرفاعي - الرياض