عند جماعة السنّة تكاد العلاقة بين الفقيه والحاكم تُنظم من خلال الإطار التوصيفي العام لكليهما.
فالحاكم لا بد أن يتصف بالإسلام والحرية والعدالة والخبرة، وهي صفات عامة يتصف بها كل مسلم؛ إذن لا تمييزية فارقة يتسم بها الإطار التوصيفي للحاكم.
أما رجل الدين، فعليه أن يكون متقناً للعلم الديني، قادراً على اشتقاق القوانين الفقهية، بارعاً في صناعة الفتوى سواء بالتقريب أو التأويل أو الاحتيال التي لا تتعارض مع أصول الفقه، قادراً على إنتاج خطاب أيديولوجي وتسويقه، يمتلك سلطة تشريع الحاكم كما يمتلك سلطة نزع شرعيته.
إضافة إلى ذلك سماكة العرف الديني الذي صنع حصانة رجال الدين، استناداً على تأويل الحديث النبوي «العلماء ورثة الأنبياء»، وهو استناد يحمل توثيقاً لمصلحتهم بأن العلماء هم رجال الدين، وهذه الحصانة بدورها هي ممثلة لخاصية العصمة.
وهكذا نجد أن الصفات التي تمثّل الإطار التوصيفي لرجل الدين هي صفات «خاصة» قلة من يستطيعون امتلاكها، ولذا وجب التمييز للخاص، وهذا التمييز هو الذي يمنح ولاية حكم الذهنية الجمعية وتحريك مساراتها.
أما على مستوى علاقة الولاية الفقهية بالحاكم عند السنّة فهي تقوم على خمسة أسس هي:
1 - إيجاد تبادل المنفعة بين الطرفين أو «المعوّض المرضيّ».
2 - ظهور رجال الدين بجوار الحاكم في الصورة الرسميّة يرفع تهمة العلمانية عن الحاكم.
3 - ضرورة ربط رجال الدين بعلاقة التسويق التشريعي لأفكار وأفعال الحاكم.
4 - رجال الدين هم الدرع التشريعي الذي يحمي الحاكم من تعرضه لثورة تمردية خارجة على حكمه.
5 - المعوِّض الجماهيري، وهو تحويل رجال الدين إلى نجوم مجتمع.
وفكرة إنشاء نجومية رجال الدين عند أهل السنّة يُمكن إعادتها إلى الأسباب التالية:
1 - التأثر بفكرة إعلامية ولاية الفقيه في الفكر الشيعي، تلك الإعلامية التي كانت من أسس النظرية الخمينية.
2 - مواكبة الثورة الإعلامية من خلال القنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي.
فأصبح لرجال الدين برامج متعددة يصل متابعيها إلى مئات الآلاف من الناس على مستوى العالم، وبذلك خرج رجل الدين من عزلته وصومعته لتحصيل متابعة جماهيرية وشعبية تتقارب مع نجوم الفن.
«فالوسيط - الفضائيات - «كان له دور كبير في صنع جماهيرية رجال الدين ونجوميتهم.
إن الهدف هو ذاته ثابت مستقر لكن اختلاف وسيط النقل هو الذي تتحكم فيه أطوار التغيير والتبديل.
إنه الإيمان الثابت المتوارث عند رجال الدين بأنهم الأحق بولاية قيادة المجتمعات العربية والإسلامية، فهم ورثة الأنبياء التي تمنحهم استحقاق وراثة الإمامة بعد خاتم الأنبياء، فداخل كل رجل دين اعتقاد بأنه ممثل المهدي الغائب الذي يُشرّع له التحوّل إلى الولي الفقيه.
3 - الوصول إلى أكبر عدد من الجماهير باختلاف أعمارهم وأفكارهم.
4 - تغيُّر الصورة النمطية لرجل الدين التي شاعت عنه كونه منزوياً بالعزلة، رجعياً، متطرفاً بالأحادية.
إضافة إلى ما أصبحت تمثّله الصورة كونها حاملاً لعقيدة معرفية ذات سلطة تأثيرية على ذهنية الرائِي، باعتبار أننا نعيش «عصر الصورة» كما يقول آبل جانس، نعيش «في حضارة الصورة» كما يقول رولان بارت.
ولذلك، فإن رجل الدين الذي يعيش بمعتقد أنه وريث الإمامة المحمدية والأحق بقيادة الأمة، يعرف جيداً دور الصورة في تشكيل معتقد الجماعة، فمع الفضائيات بدأت تتلاشى الصورة النمطية التي كوّنتها الذهنية القديمة للجمعي عن رجل الدين الرجعي ذي الهندام المبعثر والفصحى المقعرة والملامح الباهتة، ليظهر عبر الفضائيات ومن خلال حيل التصوير بشكل الشخصية الجذابة المُبهرة.
ويمكن أن نحدد ثلاثة أنواع من الصورة وفق ثنائية التقليد والتجديد، والتي ارتبطت برجل الدين الفضائي، وهي:
* رجل الدين العصري شكلاً ومضموناً، وتنتمي إلى هذه الصورة جيل الشباب من رجال الدين الفضائيين الذين يملكون مهارة فائقة في تمثيل البرمجة اللغوية والعصبية ولغة الجسد، كما أن صورة هذا النوع اعتمدت على الديكور المتحرك وتعدد الأماكن، ومزج الخطاب الديني بالتسلية والترفيه، ولذلك وصفوا بأنهم نوع من «البروتستاتينية الإسلامية» ولا يحرص خطاب هذه الصورة على الدخول في صراع الفتاوى أو السياسة.
* هذا النوع يعتمد صورة أقرب إلى الهدوء ويلتزم بالتقليدية الشكلانية لحدّ التّخشّب المطبوع، وهو جاذب للجمهور الديني التقليدي وتقل فئة الشباب من متابعيه، وخطابه غالباً يحظى بثقة أكبر من الصورة السابقة.
* وهذا النوع يمثله رجل الدين المتطرف الفج في أسلوبه، صوته، وغالباً ما يكون في القنوات الدينية البحتة والمتطرفة، والمحسوبة على ذمة السلفيين وجمهور هذه الصورة غالباً من المتطرفين الغاضبين المتزمتين.
5 - محاصرة الجمهور بسلطة رجال الدين؛ وتلك المحاصرة قد أوجدت تقارباً بين نجومية رجل الدين ونجومية غيره.
إن تعدد صور رجل الدين الفضائي قسّم بدوره طبيعة القنوات الفضائية دينياً؛ فالقنوات الليبرالية اختارت النوع الأول، والقنوات الوسطية اختارت النوع الثاني، والقنوات ذات الاتجاه السلفي اختارت النوع الثالث.
وبذلك أصبح المحلل الثقافي يستطيع التوصل إلى الطبيعة الدينية للقناة الفضائية من خلال نوع رجل الدين الذي يظهر من خلال شاشتها، وهو ما حوّل رجل الدين ها هنا إلى «قيمة تسليعيّة» يتلاعب بها التسويق الإعلاني.
لكن رغم ذلك أتاحت لرجل الدين حرية نشر خطابه الديني الذي يتفاوت ما بين النبرة الليبرالية والنبرة الوسطية والنبرة التطرفية التحريضية من خلال ظهور الخطاب الخفي للجماعات الدينية المتشددة عبر قنوات مستقلة تدعو إلى معاداة المجتمع وتقسيمه إلى مسلم وكافر وتُشجع على شيوع فكر العنف والتغيير بالقوة بحجة البروتستانتية الإسلامية.
- جدة