كان لصدور قرار مجلس جامعة الدول العربية بتاريخ 3 سبتمبر 1968م أثرٌ في إنشاء لجنة إقليمية عربية دائمة لحقوق الإنسان، تختص «بالعمل على حماية حقوق الإنسان العربي، وتنمية وغرس الوعي بحقوق الإنسان لدى الشعب العربي»، ولهذا القرار أهمية قصوى في تكريس الاهتمام بحقوق الانسان العربي، ولا سيما حقه في التعليم. وقد فصّلت هذا الحقوق في مبادئ أساسية، ومنها: أن يكون التعليم مجانياً على الأقل في مراحله الأولية والأساسية، وأن يكون التعليم الأولي إجبارياً، وضرورة جعل التعليم الفني والمهني متاحاً بشكل عام، وأن يكون التعليم العالمي متاحاً على قدم المساواة أمام الجميع، وعلى أساس من الجدارة والاستحقاق، وفي جميع الأحوال يتعين «توجيه التعليم نحو تنمية الشخصية الإنسانية تنمية كاملة»، والأخير يُعد الأهم دون أدنى شك.
وقد نالت قضية السياسة اللغوية والإبقاء اللغوي أهمية لغوية اجتماعية وسياسية بالدرجة الأولى، وقدرًا كبيرًا من الاهتمام الدولي من لدن الأمم المتحدة، ففي تقرير حول التقدم الإنساني في عام 2004 (انظر إلى التقرير من خلال هذا الرابط: http://hdr.undp.org/reports/global/2004/) تضمينٌ غير صريح مفاده أن حق الإنسان في الحفاظ على لغته الأم وفي حريته الثقافية مرهون بالقوة السياسية، وهذه القوة تُعد أكثر تأثيرًا على أحوال اللغة التي تُستعمل بشكل رسمي من أحوال أخرى تتضمن استحثاث أفراد اللغة المهمّشة أو المرفوضة إلى السعي على إبقاء دون تفعيل واقعي لها في الأوساط الاجتماعية والإعلامية والمهنية. يتضمن هذا التقرير إشارات سلبية إلى أن اللغات الشفهية التي لم تنل حظاً من التدوين والاستعمال عبر الوسائط الإعلامية والتربوية والتلفزيّة والإذاعية لن يكون لها مساحة أوسع تتوافر فيها ضمانات الإبقاء اللغوي linguistic maintenance. ويشير هذا التقرير أيضًا إلى أن هناك أكثر من 2500 لغة مستعملة في أجزاء الصحراء الكبرى الأفريقية، وأنها كلها ليس لها نصيب من الاعتماد السياسي في التعليم، وأن ثمة 30 دولة أفريقية تعتمد لغةً رسمية مختلفة عن اللغة الأوسع استعمالاً لدى الجماعات اللغوية وبصورة قسرية، وأن 13% من الأطفال، ممن هم من أهل النفوذ السياسي في تلك الدول، تُعتبر لغتهم الأم هي اللغة التعليمية المقررة رسميًا، والمعلوم أن البيئة الاكتسابية للطفل تؤهله إلى اكتساب عدة لغات بالقدر نفسه، بل وتعين الطفل على أن يبدع في اللغة! لأن تنوع أنظمة لغوية من لغات غير واحدة معينة في عقل المكتسب والمتعلم تجعله مبدعاً لغوياً دون أدنى شك!
ويصل التقرير إلى أن مسألة اللغة وسياستها والتعليم وحقوق الإنسان لا تعدو أن تخرج من إحدى حالات ثلاث؛ الأولى: اللغة الرسمية المقررة سياسياً، بغض النظر عن حجم جماعتها اللغوية كميًا، والثانية: اللغات التواصلية ذات الاستعمال المحدود بالاتصال الاجتماعي، وغالبًا ما تكون هذه اللغات هي اللغات الرسمية كون جماعتها اللغوية تُعدّ الأكثر من حيث العدد، والثالثة: اعتراف رسمي باللغة الأم وباللغات المحلية دون الحق في استعمالها بوصفها لغات تعليمية أو تواصلية.. وتحمل الحالة الثالثة أدوات عنصرية وقمعية كونها تسعى إلى مفاهيم خطيرة أساسها: التطهير اللغوي linguistic genocide، وليس حال السعي إلى تقليص أدوار اللغة في الحياة الاجتماعية والتعليمية وسلب جماعتها اللغوية الحق الإنساني في الحفاظ على لغتها وثقافتها وهويتها نابع من الدور الذي تلعبه السياسة، بل يتعداه إلى مفاهيم نسقية إنسانية أكثر خطورة، تنبع من القوميات والأديان والعرقيّات: على سبيل المثال: يبلغ عدد الأكراد في تركيا 25 مليوناً، وليس هناك حق في استعمال اللغة الكردية بلهجاتها الزازاكية والكورمانجية في مجال التعليم والإعلام والإذاعة، وذلك كله بسبب المركزية السياسية القومية التركية العثمانية الجديدة.
ويشير كابوتورتي Capotorti 1979 (وهو أحد أعضاء الأمم المتحدة المأكاديمين المهتمين بمثل هذه القضايا) إلى القرار الأخير الذي أصدره الكونغرس في فيينا عام 1815، الذي ينص على أهمية المحافظة على الأقليات اللغوية، وهو حق قد بات منذ تلك اللحظة حتى يومنا هذا وبصورة تغليبية غير متحقق الشروط والنفاذ والتطبيق. لحق ذلك القرار معاهدات سلام عديدة وُقعت بعد الحرب العالمية الأولى ومن بعدُ الثانية، وقد ركزت على عدة صور حقوقية تكفل حقوق الأفراد بما فيها لغته وثقافته، إلا أنها لم تتضمن كفالة دولية لأقليات الجماعات اللغوية في العالم، ولم تظهر هذا الكفالة الحقوقية بشكل قانوني دولي إلا في تقرير فرانشيسكو كابوتورتي (محرر وممثل معتمد لدى الأمم المتحدة) الذي صدر في عام 1979م.. وتضاءلت دعاوى ضرورة منح أحقية الأقليات اللغوية لجماعاتها في مجال التداول والاستعمال الرسمي والتعليم، واستمر هذا التخافت المقصود حتى مطلع العقد الأخير من القرن العشرين الذي نالت فيه علوم اللغة والاجتماع والسياسة والقانون حظًا وفيرًا من البحوث العلمية والتقارير المسحية لواقع أقليات الجماعات اللغوية في العالم. من أكثر الحقول الأكاديمية التي ساندت هذه القضية هي: علم اللغة الاجتماعي، وعلم الاجتماع اللغوي، واختصاصيو العلوم السياسية والتربويون، وبخاصة أولئك الذين اشتغلوا في جانب القانون الدولي وحقوق الإنسان واللغة والتعليم، ومنهم: سكوتباب - كانجاسوفيليبسون Skutnabb-Kangas and Phillipson 1994، وفيرناند دي فارينس Fernand de Varennes 1996، وروبرت دونبار Robert Dunbar 2001، وجيمس فايف James Fife 2005). مما تضمنته تقاريرهم وأبحاثهم إمكانية انقراض أكثر من 90% من اللغات المحكية في عام 2100م. تلك اللغات على وجه التحديد التي لا سبيل إلى إبقائها والحفاظ عليها إلا بوساطة التلقي والاكتساب الشفوي من السلف إلى الخلف، ومن هنا فإن دعوى الحفاظ على اللغة والمناضلة من قبل الجماعات اللغوية ذات اللغات المحكية فقط، التي لم تُعط أحقية الاستعمال الرسمي في التعليم والإعلام، ليست كافلة للحق الإنساني في ذلك.. ونشير هنا إلى مثال فريد للغة الأمازيغية، حيث قد نجح مستعملوها (وهي لغة تمتد لأكثر من ثلاثة آلاف سنة) بعد سنين طويلة في إقناع القوى السياسية المغاربية بقبول اللغة الأمازيغية في سياق التعليم والإعلام في مطلع القرن الحادي والعشرين، وقد دفع هذا القبولإلى إرساء ركائز مفهوم الإبقاء اللغوي linguistic maintain الفعلية ومنها: تأسيس قنوات إعلامية أمازيغية، وتداول اللغة في المجالات الرسمية ومنها التعليم، وابتكار خط أمازيغي جديد معتمد على الخطوط المسمارية، والمعروف باسم «تيفيناغ». من المؤسف أن نجد للأقليات حظًا أكبر لاستعمال لغاتهم في بعض دول أوروبا، فإزاء استمرار رفض القوة السياسية التركية لمنح حق استعمال اللغة الكردية التي يتحدث بها 25 مليون نسمة بشكل مفتوح إعلامياً وتعليمياً، نجد أن الجالية الكردية في ألمانيا، التي تبلغ 8 ملايين تقريبًا، قد نالت حظًا مفتوح الخيارات من الدعم السياسي المحلي في أحقية تأسيس قنوات كردية خاصة بلغتهم، وتداولها بشكل رسمي.
وثمة فجوة ملحوظة بين ما هو قانوني دولي متعلق بالسياسة اللغوية والتعليم وحقوق الإنسان وبين معظم البحوث الأكاديمية في المجال ذاته، وعلى الأخص في دول العالم الثالث والدول النامية.. ويُشير العديد من الدراسات والأبحاث الأكاديمية والإستراتيجية إلى أنه كلما طال زمن استعمال اللغة الأم، فإن لذلك دافعًا قويًا إلى أن تكون هذه اللغة وعاءً رسميًا للتعليم، وكلما ازدادت رسميّة هذه اللغة بين أوساط الأقليات اللغوية الاجتماعية كان ذلك دافعًا إلى تدني مستوى التداول للغات الأقلية.. وعلى أية حال؛ يُرى أن للأبحاث الأكاديمية دورًا ضئيلًا في التصدي لأحوال اللغات الأقلية وظروفها الاجتماعية والسياسية ومآلاتها المستقبلية من حيث البقاء من عدمه (انظر: http://www.crede.ucsc.edu/research/llaa/1.1_final.html)، وقد أشار بعض القانونيين الدوليين لدى الأمم المتحدة إلى هذه المشكلة، وألمحوا إلى أن الدور لا يحسمه إلا الأقليات من حيث دورها وفعاليتها في الأنشطة الإنسانية بين الأوساط اللغوية الاجتماعية المهيمنة، ومدى الضرر الإنساني والاجتماعي والتواصلي على الهوية المنضوية ضمن اللغات الأقلية، وأما الدور الكبير مرهون بالأصوات الفاعلة سياسيًا على التعليم والتعلُّم لدى جماعات اللغات الأقلية، وأن ثمة فواصل ثقافية بين الطلاب المتحدثين باللغة الرسمية وأولئك المتحدثين باللغة الأقلية، تتطلب التداول الرسمي التعليمي لكلتا اللغتين؛ كله من أجل خلق بيئة اجتماعية وتعليمية تواصلية للغتين بهويُتيهما.
ومعظم القوانين الدولية، ومنها ما قد صدر في تقرير «المعاهدة الدولية للحقوق السياسية والمدنية ICCPR في عام 1996م في الفقرة 26، يُفيد بشكل صريح أن للمقاطعات التي تتضمن جماعات لغوية (عرقية، أو دينية، أو ثقافية) ما زالت تستعمل لغاتها المحكية حقًا في أن يُوفّر لها وسائط أوسع من الاستعمال اللغوي الشفهي، مثل: التعليم، والإعلام، والتدوين، والكتابة.. وكانت هذه التسوية مجرد تقرير خطي غير فعّال، إلى أن ظهرت وثيقة أخرى ملحقة للوثيقة الدولية للحقوق السياسية والمدنية في عام 2005م، التي بدورها أعادت التأكيد على حق أقليات الجماعات اللغوية والدينية في تداول لغاتهم بصورة اجتماعية، وأن عقوبة منع ذلك، أي: منع الاستعمال اللغوي للأقلية اللغوية من وجهة اجتماعية بصرف النظر عن الحق الرسمي يُعد من قبيل الإبادة genocide غير أنها لا تترتب عليها عقوبات دولية! وما ورد في هذه الوثيقة لا يُعدّ بجدارة قانوناً فاعلًا يحترم مصطلح «القانون» فيما يبدو في العصر الحاضر، وقد جرى التصويت بتأييد هذه الوثيقة من 83 دولة، غير أن بعض الدول قد دعت إلى تعريف دقيق وشامل لأحوال اللغات التي تطالب جماعاتها اللغوية بحق التداول والاستعمال، وصياغات هذه الحقوق، وظروف وتداعيات السماح من عدمه من مناظير سياسية واقتصادية وتعليمية واجتماعية.. وهنا، نلحظ أن مفهوم السياسة اللغوية والتعليم وحقوق الإنسان قد تكون مجرد ردح في بوتقة الشكليات الجدلية التي تطول تفسيراتها ويطول استخراج عللها وتداعيتها ومآلاتها بصور غير علمية، الأمر الذي يجعل من حق المطالبة بالاستعمال اللغوي للأقليات ساحات مبادراتٍ وتسويات وتفاوض لا تؤطر مدى أحقية تداول اللغة للأقليات من جهة ومدى حق تحجيمها من جهة أخرى، ومدى قبول الاستعمال سواء على المستوى التواصلي غير الرسمي (اجتماعي) أو على المستوى الرسمي (التعليم والإعلام والتداول النصي الرسمي) (انظر كابوتورتي Capotorti 1979).. ومن الحلول المتبعة في قضية إبقاء اللغات الأقلية بناء مدارس أهلية عند المقدرة الاقتصادية من لدن الأقلية نفسها، وعلى مدى تقبل السياسة المحلية لهذا التمرحل المركب للغة الأقلية المحكية مع اللغة الرسمية.
وستبقى قضية اللغات الأقلية عالقة إلى أن يكون للأقلية ذاتها شأن في الوسط الاجتماعي من الناحية السياسة والاقتصادية، أما على المستوى الاجتماعي البحت فإنها قطعًا ستكون محل صراع ثقافة شفهية أو شفهية كتابية لا تنال من حظ التداول بين أوساط جماعتها إلا ما يمكّن من التواصل الحميمي العائلي والأسري والمحلي بصورة غير رسمية. للسياسة اللغوية النابعة من القوى السياسة المسيطرة دور كبير أيضًا في مدى اتساع الاستعمال والتداول والتواصل المعزز للإبقاء اللغوي والثقافي، وهو الدور الذي ستظل الأقليات مرهونة به لولا أن أوجدت قنوات أخرى تفرض بها حق التداول اللغوي وإبقائه على المستوى السياسي والاقتصادي والتعليمي. أما أدوار حقوق الإنسان والأبحاث العلمية والإستراتيجية، فلن تعزز أي تطبيق فعّال ما دامت ساحات الصراع وتحقيق المصالح الدولية على المحك في اتجاه يتضاد مع الأهداف الإنسانية والأعراف الدولية غير الجادة، أي: إن الصورة الضبابية في الدفاع عن الأقليات الاجتماعية ولغاتها وثقافتها ستبقى محل توقيفٍ للصورة الكبرى التي تتشكّل غالباً بعناصر المصالح القومية الكبرى.
ومن صور واقع الاضطهاد السياسي السياسي اللغوي في الشرق الأوسط ما نراه في إيران؛ فمنذ عام عام 1981م، لا تحمل في مواثيقها السياسية الدولية أيَّ انعكاس إيجابي من ناحية احترام الأقليات واحترام اللغات غير الفارسية واحترام ما يزيد على 80% من متداوليها!!!
إن كل أمة تعاني من مشكلة لغوية ستعاني بالضرورة من مشكلة ثقافية، وستعاني بسببهما من مشكلة أخلاقية ( الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن)، ولهذه السياسة أبشع صور الاضطهاد ووأد الحق الإنساني في أقل حقوقه الطبيعية، والناتجة بشكل دوري من تفعيل سياسي داخلي بائس ومعتوه.
إن أي مثال يُطرح من العالم حول ضياع حق التعليم وحق الاستعمال اللغوي وحق التنوع الثقافي لن يكون أكثر بشاعةً من دولتين سرطانيتين على المستوى الحقوقي واللغوي والتنوع الثقافي؛ وهما: إيران وكوريا الشمالية، فهما -بلا شك- يصوران لنا أبشع الظلم والقهر والعدوان على حق الإنسان في لغته وثقافته وحق تداولهما الطبيعي من قِبل جماعاتها اللغوية!
د.سلطان المجيول - الرياض