عرفت شكري المبخوت وجمعتني به جامعة ابن زهر في أغادير قبل نحو عامين.. كان هو رئيس جامعة منوبة، يوقع عقد تعاون مع جامعة ابن زهر. كان رجلاً مربوع القامة، قد وخطه الشيب، هادئاً، لا يخفى ما يحمله هدوؤه من أمواج السنين الصاخبة. وحضر هذا العرس البهي البهيج الإنساني مدير جامعة ابن زهر، وكنا بعض السعوديين شهوداً على هذه البساطة وهذه الأخوَّة الحقيقية بين الجامعتَيْن.
التقطتُ صوراً مع شكري المبخوت، وكنت قد قرأت مجموعة من كتبه في اللسانيات، وبعضاً من ترجماته. وحقيقة، عجبت لكل هذا العمق، ولكل هذا الجَلَد في الكتابة، ولكل هذا التعقيد.. وعجبت من بعد أكثر بلغته الروائية البسيطة الخالية من التعقيد، ولكنها ممتلئة بعمق آخر، يختلف عن عمق العلم.. عمق فني، يهز العقل والعاطفة والجسد..
تذكرتُ سفري إلى تونس قبل الربيع التونسي بشهر تقريباً.. وكنت قرأت قبل سفري لأحد الجامعيين التونسيين الذي نقد شكري المبخوت وزملاء آخرين نقداً عنيفاً، لا هوادة فيه، وسرني أنه معي في الندوة التي حضرتُ لأجلها.
أول انطباع كان لي من سائق التاكسي حول تجمع بعض الشبان في أحد الشوارع، وكان ثمة ما يشبه المعركة، وكنت أعلم عن حدة شمال إفريقيا، وأظن تونس أرقهم جميعاً.. طمأنني قائلاً بما معناه «هنا أمن صارم، لا يوجد ستة أشخاص إلا وبينهم مخبر». الأمور ستحل بسرعة؛ لدينا أمن قوي.. رأيت المبنى الرمادي الكبير.. سكنت في فندق في شارع الحبيب بورقيبة.. كنت أتمشى هنا أو هنالك.. سألني بعض الذين ألتقيهم كيف وجدت تونس فقلت بعد أن أثنيت على محاسنها: رأيت في جادة مرسيليا حزناً وغيظاً وألماً وإحباطاً يكاد يخرج من العيون..
وكانت الندوة ولقيت الأستاذ الذي نقد المبخوت.. كان استعراضياً.. فصيحاً.. بليغاً.. موسوعة تمشي على الأرض، ولكنني كنت متعباً، فبقيت قليلاً بعد انفضاض الحضور، وكان الأستاذ متعباً أيضاً، فإذا بمجموعة من الفتيات يتحلقن عليه كوردة.. كنت أنظر باستغراب واندهاش، فوقعت عيني على عينه، فقرأت فيهما مباشرة أنه يخبرني عن انتصارين لا انتصار واحد. زاد استغرابي؛ فبالرغم من أنني الرجل الآخر الوحيد معه في القاعة إلا أنني لست من تونس، ولا يعنيني كثيراً ما أراه..
وها هو شكري المبخوت يلقي تونس لمن لم يقرأها دفعة واحدة.. ها هو مدير جامعة يكتب هذه الرواية ليدل على مستوى التسامح والتعالي الكبير الذي وصل إليه المجتمع التونسي والثقافة التونسية، ولو كتب مثله عندنا لاتخذوه عدواً بل لفُصل من عمله..
لقد عرَّى هذا العمل المجتمع التونسي تعرية كاملة، ووضع حقبة من تاريخه باحتراف فني نادر؛ ليصل إلى تلك اللحظة التي قالت فيها زينة: «أنا الآن أعيش مرحلة ما بعد الحرص والندم والأمل واليأس والخير والشر» عندما أصبحت أم نفسها، وعندما رحلت باريس لتعيش مع العجوز إريك ش، وتهجر عبدالناصر الطلياني..
كان ذلك الأمن الصارم هو التيمة التي حركت تونس فيما قبل التحول.. ولذا وجدتها في الرواية بكل جبروتها؛ فالتقرير الأمني هو ورقة الحياة أو ورقة الموت للناس، به يرتفعون، وبه يسفلون..
لا أدري، رأيت في زينة المثقفة «أنا حرة في نقد اليمين ونقد اليسار» التي أخطأت في حقها كل التيارات السياسية، بل أرادت بعضها اغتيالها وتصفيتها؛ لأنها مثقفة أكثر مما يجب.. رأيت في زينة كل تونس.. معاناة تونس.. ورأيت في عبدالناصر وأريك خيارَيْن لزينة، أحلاهما مر.. لأنها لم تحقق حريتها ولا ذاتها. أراد ناصر أن يعوض زينة، ولكن هيهات، لن تكون ريم كزينة، ولن تكون فرنسا كتونس، ولا تونس كفرنسا.
لقد قرأت في هذه الرواية المجتمع الأكاديمي والإعلامي والثقافي التونسي، كما قرأت الصراع الفكري والثقافي والسياسي في تونس بمهارة وإتقان شديدين في تونس؛ إذ كانت الحقيقة هي الدولة، والدولة هي الحقيقة كما تقول الرواية.. في ذلك المجتمع المثقف المطحون.. كان لا بد لما وصل إليه من تأزم قيمي أن يؤدي ما أدى من ربيع.
اعتمدت الرواية على تقنية الراوي العليم في أغلبها، كما اعتمدت على الاسترجاع والتذكر في بعض المواضع، ثم العودة للحاضر، ولكنها بدأت بالتقنية المعهودة المتكررة، وهي البدء من نقطة النهاية للعودة إلى البداية.. كان زمن الرواية زمن تحولات حقيقة لزينة ولزين ولتونس وللطلياني، أفضى إلى ما أفضى. واقتناص أزمنة التحولات هو مهمة الروائيين العظماء؛ ولذا فإن هذه الرواية تعد وثيقة فنية عالية المستوى لقياس التحول، ولقياس رقي المجتمع القيمي والمعرفي والإبداعي.
تحرك الشخصيات كان يتم بمهارة.. حضور مختلف الأصوات ومختلف التيارات يتم بمهارة أكبر؛ إذ تتحرك نحو سبعة معارج، تتقاذف المجتمع التونسي.. وهذه الأطروحة التي تعدها زينة عن حنا أرندت تلمح بصمت، وتدل على طريق جميلة، ولكن النهاية لم تكن جميلة، ولكنها تضع المفتاح على الباب لكل خلاص «اذهبوا اقرؤوا يا جهلة».
هذه الرواية هي رواية ما قبل التحول، ولعلها تكون ثلاثية برواية التحول ورواية ما بعد التحول.
ما يدهش حقاً أن الشخصيات كما هي شخصيات حية هي في الوقت نفسه تحمل تمثيلاً عميقاً للمجتمع ولتونس بتاريخها وحاضرها ومستقبلها.. إنها من أوضح العلامات على نضج الوعي السياسي في تونس.
ليس في الرواية إسهال وصفي، وليس فيها لغة شاعرية لا داعي لها، هي لغة راقية، ترتفع بالقارئ العادي إلى مستوى المثقفين، وتنزل بالأكاديمي إلى مستوى القارئ العادي..
ومع أن الرواية تكاد تكون تقليدية في حبكتها إلا أنها من الروايات التي تأخذ بتلابيب القارئ، ولا تتركه دون أن تأسر لبه.
كنت علقت في إحدى وسائل التواصل قبل أيام على أنني لم أقرأ الرواية؛ ففوجئت بأحد الأصدقاء يرسلها إليّ. قرأتها في يومين وأنا مريض، ولم أشف إلا في نهاية القراءة.
بوركت هذه الرواية من رقية شفاء، وبورك كاتبها..
د. جمعان بن عبدالكريم - الباحة