الثقافة بمعناها الواسع تقابل الماديَّ من وجود الإنسان، فالإنسان بصفته كائنًا حيًّا يحمل في تكوينه خصائص التجسد الحيواني من حوله سواء بسواء، فهو يعيش ويموت، ويشبّ ويهرم، ويحمل رغباته: في التزاوج والتكاثر، والطعام والشراب، ويضطرب مزاجه فيخاف أو يغضب وقد يتعارك. ولو ظل الإنسان مرتهنا لهذا الجانب من تكوينه لما عمر الأرض، ولما استطاع تجاوز فجائع الانقراض وبداءة الحياة إلى طفرات الزراعة والصناعة والتكنولوجيا والمعلوماتية، ولما نفذ من آفاق الأرض للسماء..
لقد كانت الخطوة الأولى لهذا الانتقال هي تحوله إلى الثقافة، وليست الثقافة قراءة الكتاب أو نسخه، أو التدفق بالقصيد أو ارتجال الخطبة، ولكن الثقافة تكمن في: الخروج من هيمنة اللحظة وحساباتها، ومن سلطة الشهوة الجسدية في وجود الإنسان إلى قرار الالتقاء مع الشركاء لتكوين المجتمعات. هذه اللحظة التي تفتقت معها آثاره ووجوده الجديد هي الفارق بعينه بين إنسان الما قبل- ثقافي وإنسان الما بعد- ثقافي.
وبقدر ما أنعمت عليه الثقافة من رقيٍّ معنوي وتهذيب جسدي بقدر ما كبلت الكائن الحيواني في أفعاله وجسده، وحدت من نزعاته للتفرد الوحشي الذي يكون دون حساب، وما زالت سطوتها - أي: الثقافة - في تاريخ تثقف الإنسان القديم تزداد عليه يومًا بعد يوم حتى اتصلت بأدق شؤونه، ووسمته بخصائصها، وتجاوزت علاقاته المراقبة مع من حوله لتصل لداره بل إلى مخدعه الذي ينام فيه ويختلي بمن يسكن إليه. ثم كانت بعد ذلك فصول الأخلاق، وفصول الآداب، وفصول الأعراف، وفصول القيم، وغدا الإنسان منتظمَـًا بـ»الثقافة» منذ ولادته إلى وفاته، ولم يعد بوسع أي شيء يتصل به وبوعيه إلا أن يكون ثقافيًا، حتى تلك النوازع الطبيعية فيه تحولت إلى ثقافة، فالأكل، والشرب، وقضاء الحاجة والاستفراغ، والولادة والوفاة والزواج، والعطاس والتثاؤب ... إلخ، لكل منها طقوسها التي تختلف شرقًا وغربًا ولكنها جميعًا لم تعد حدثًا طبيعيًا يمر كما يمر بسائر الكائنات، التي تشاطرنا الحياة على هذا الكوكب. فجلستنا على المائدة وتناول المطعوم والمشروب له طريقة لا بد من التقيد بها، والحاجة الجنسية إلى شريك تمر بمحطات يشترك فيها المجتمع بأسره، وتتحول إلى حادثة ثقافية تتجاوز الشريكين، وصيغة من التعاقد يكفل حق الطرفين ويحفظ حق النشء الذي يواصل «مشوار» النوع من بعد. وليس غير الثقافة طريقًا للوجود النافع الذي يروّض الطبيعي في الإنسان، ويجعل لفعله مسوغًا وغاية.
والثقافي - بما هو سلوك- قيد ولا شك، ولكنه قيد اختاره الإنسان بعد تجارب مريرة للخروج من تشوه الجسد إلى جماليته، ومن الوحشية النافرة التي يغيب فيها معنى الحياة إلى الألفة الوادعة التي تعين على تأمل الحياة واستمرائها، ومن البلادة والسذاجة التي يتوقف فيها الزمن إلى ما أسمّيه الحاجات التكوينية المتطورة، التي لا ترتهن لحاجة النوع البسيطة ولكنها تنفتح على الزمن وتتضاءل أمامها حاجات المكوّن الحيواني الذي يحمله الإنسان بين جنبيه. ولتنطلق تجربة الإنسان - عبر قيد الثقافة- من سلطان اللحظة إلى كتابة التاريخ، فالثقافة ذاخرة للحقيقة وذاخرة للمعنى، ومن دون الثقافة تغيب ذاكرة الأوجاع وذاكرة المسرات، ويغيب الضمير.
ولذلك كان الفعل الثقافي الحقيقي مهما تطلَّع فاعله للحرية مجللًا بالقيد، فالخيارات الثقافية هي الخيارات المسؤولة عن ماض وعن مستقبل وعن قيمة، وليست تشظيًا عن الخيارات المبرمة وإن خالفها. فهنالك فرق كبيرٌ بين المثقف الرائد والمجدد والمصلح الذين يحاورون الثقافي بالثقافي وبين الغوغائي الذي انتسب للثقافة من باب أنه قرأ أو كتب.. لكنه لا يقدر المجتمعات بصفتها ضامنة للفرديّة وللحرية، ويريد أن يرتد بالنوع من الثقافي إلى الطبيعي، ومن سياق السببية إلى سياق المصادفة والعدمية.
د. أحمد بن علي آل مريع - أبها - رئيس مجلس إدارة نادي أبها الأدبي - أستاذ النقد الثقافي بجامعة الملك خالد