يتقاعد الموظف فيتلقى مشاعر التعاطف والمؤازرة لأنه في نظر كثيرين وصل إلى مرحلة يقل فيها العطاء ويفقد كثيراً من صلاحياته وحضوره الإنساني.
الموقف تغيّر مع بعض الحالات في ساحتنا، وهي قليلة ونادرة، صنعها رجال عاشوا حياتهم باختلاف ودأب، وعززوا حضورهم في دروب الحياة بعطاءات لا ترتهن للكراسي والمناصب وبهرجة الأضواء الخادعة فأضافوا لمواقعهم أكثر مما منحتهم، وسجلوا نجاحات وفُرق عمل وأجواء إنتاج تضمن بقاء بصماتهم واستمرار أثرهم، لأنهم لم يعملوا لقطف ثمارمحدودة، ولم يتحركوا مأخوذين بالذات أو الغرور ونزواته.
تذكرت شيئاً من هذا وأنا أتابع حالات الاحتفاء والتقدير التي لقيها الأستاذ الدكتور عالي سرحان القرشي وهو يغادر وظيفته الأكاديمية بجامعة الطائف..كان المتابعون والمحبون له وتلاميذه يحيطونه بالتهاني والحب والدعاء بعمر جديد، يؤكدون أنه فيه سيكون أكثر عطاء وإنتاجاً فقد أخذته الالتزامات الوظيفية عن كثير من الأدوار المعرفية والثقافية التي برع فيها، ولم يتفرغ لها.
لم يتباك أحد على مغادرته المواقع الأكاديمية فهي لم تضف له شيئاً لأنه المثقف قبلها، والناقد المتابع بشغف ووعي للساحة الأدبية وأدواره تتحرك في كل الاتجاهات والفضاء الأكاديمي جزء منها. وبعض الأكاديميين المثقفين تأخذ منهم المهمات الإدارية الجانبية طاقة ووقتاً لو بذلوه في البحث والتأليف لقدموا منجزات ثقافية أكثر نفعاً وبقاءً.
في ثمانينيات القرن الفائت كانت الساحة الثقافية والأدبية في أوج عطائها، وتنوعت منابرها، ونشطت المناسبات والملاحق الثقافية والجدل، وقادت عدة أسماء الحراك بجدية ومسؤولية ووعي كان الدكتور عالي القرشي أحد هؤلاء يقدم دراساته النقدية ومتابعاته ممتلكاً ذخيرة تراثية واقتراباً وفهماً للنص الجديد بكل تحدياته وأبعاده، واستمر أداؤه عالياً مترفعاً عن الصراعات والاختلافات الرخيصة فكسب احترام الجميع، حتى الذين لم يتفقوا معه.
وعند تأسيس جامعة الطائف انتقل إليها من كلية المعلمين، وفي كلا الموقعين مرت بحدائقه المعرفية أجيال من الطلاب والباحثين الذين يعترفون بفضله عليهم ومساندته لهم في طريق بناء شخصياتهم باستقلال ومسؤولية دون وصاية أو تسلط وتنميط؛ وتلك سمات الأكاديمي المتمكن حين يثق في نفسه وفي عقول وهويات الآخرين.
وفي مسار التأليف قدم ثلاثة عشر كتاباً تتصل بقضايا البلاغة العربية والنقد القديم والحديث، وتتخذ من النصوص الإبداعية شعرية وسردية مجالاً رحباً لتطبيقات أدوات الناقد الحاذق المحتفي بالفن والجمال والاختلاف.
وأشرف على عدة رسائل علمية، وناقش أخرى داخل المملكة وخارجها، وشارك في بناء عدة أعمال موسوعية، وأسس مجلة جامعة الطائف للعلوم الإنسانية؛ وهي علمية محكّمة شكّل أسرة علمية لها وقادها بمسؤولية وانتظام. ولم تنسه المهمات الأكاديمية المشاركة في إدارة المناسبات الثقافية والتخطيط لها أو الإشراف على مضامينها. وقد نجح في ذلك بكل اقتدار.
وحين نشطت مواقع التواصل الاجتماعي كان الدكتور عالي واحداً من المستثمرين لها لإشاعة الحوار البنّاء، وتأصيل الاختلاف العاقل، ودفع القطيعة بين الأجيال.
سيرة الدكتور عالي ومسيرته الشمولية دلائل على الرسالة التي يمكن أن يؤديها الأكاديمي المثقف المستنير متحرراً من كل القيود والدوائر الضيقة، ليعمل بتآلف مع من حوله متحركاً نحو حالة شمولية أبقى وأنفع.
محمد المنقري - جدة