عندما خلق الله - عزّ وجلّ - الإِنسان لم يكن مختلفاً عن بقية الكائنات في التركيب الجسماني، لكنه تميّز عن كلّ الكائنات بقدرته العقليّة التي تمتلك النظرة الدقيقة لأمور الحياة، ومجرياتها كُلّما اجتهد في التّدبر والوعي؛ لذلك كان الأنبياء، والصالحون، والمفكرون، والمخترعون، وقبل كلّ هذا كان خطاب الله تعالى للبشر بأن يتدبروا، ويتفكروا في أكثر من آية.
إنّ انعدام هذا التدبر اليومي يمكننا قياسه في أبسط صوره عند شخص يحدثنا عن إشاعة قرأ عنها في مواقع التواصل على أنها حدث حقيقي، وعندما تبيّن له التناقضات، فالرد الطبيعي الذي ستسمعه منه: لم أفكر في هذا! أو لم أربط! أو لم انتبه أن تاريخ المقطع قديم! كلّ هذه الإجابات متعلقة بتدبر العقل، وغياب التّفكّر الذي حثنا الخالق سبحانه عليه.
إنّ هؤلاء النّاس الذين يَصُبّون الحياة في قوالب وعيهم غير الناضج؛ النابتُ من خلال ما تعرضوا له من مثيرات، ومواقف ساهمت في تبلوره بهذه الطريقة؛ هم أمانة في أعناقنا جميعاً؛ أمانة في أعناق المشائخ، والخطباء، والأساتذة، والمعلمين، أمانة في أعناق أولياء أمورهم الذين يختارون لهم ماذا يقرؤون، ولمن يستمعون، ومع من يمكثون معظم أوقاتهم.
إنّ الحوار العربي الحالي؛ يعاني أوراماً ثقافية مستعصية لا بُدَّ من استئصالها فيما يخص ثقافة المواطن العربي البسيط على مستوى المجتمعات. هذا ما كشفته لنا مواقع التواصل الاجتماعي؛ فهي رغم البلاء العظيم الذي جاءت به، إلا أنهّا فتحت لنا النوافذ، وشرّعتْ لنا الأبواب على عقول المجتمعات؛ لنتعرف على طريقة تفكير الآخرين الذين يشاركوننا الوطن الصَّغير قبل الكبير، من خلال ما يبثون من آراء، بل ومن خلال ما يؤيدون أيضاً؛ فاختيار المرء قطعة من عقله!
المؤشرات الأوّليّة تقول ان السواد الأعظم؛ سلّم عقله للآخر دون تثبت، أو تدبر، وأبى إلا أن يختار الدين الجاهز، المعلّب بفكر الملقي، وميوله، ومن هنا خرج الفكر المتطرف، والفكر التكفيري، والفكر الذي يزعم بأنّه لا منتمي، والآخر الذي يدّعي بأنّه حُرّ؛ ليتخبّط الجميع - إلا من رحم ربي - تخبّطاً مدمراً، حتى يصل إلى ثوابت الدين والحياة.
في هذه الفترة الحرجة من تاريخنا الإسلامي، والعربي؛ نحن بحاجة إلى مجتمعات واعية، تُحطّم أصنام التقديس الزائف للأشخاص على حساب الدين، ولا تُسلّم عقلها للآخر؛ لأنها إن فعلتْ ستضع المجتمع على محك الانهيار. والمجتمع بحاجة إلى الإدراك الصحيح الذي لا يتعثر في تمييز أمور الحياة، حتى لا تجد الفتنة باباً تلج منه.
وبما أن النّاس متفاوتون في قدرتهم على الفهم، فلا يمكن أن يَتمَّ ذلك بصورة سهلة، مما يُحتّم ضرورة إعادة صياغة الحياة في المجتمع الواحد، بعيداً عن الّتناحرات، والتّصدّعات التي أوجدها الإِنسان، ولم ينزل الله بها من سلطان.
التعايش الإِنساني، واحترام الآخر المختلف عنّا في دين، وفكر، ومذهب، والذهاب معه إلى كلمة سواء هو ما تتطلبه هذه المرحلة؛ ليبقى الوطن بخير، وتظل أمّة الإسلام بخير.
د. زكيّة بنت محمّد العتيبي - أكاديميّة وكاتبة سعوديّة