مضى حين من الدهر لم أستمتع فيه بقراءة بحث كما استمتعت بقراءة بحث الأستاذة الدكتورة وسمية عبد المحسن المنصور (وقائع الخطاب في كتاب مجالس العلماء للزجاجي) المنشور في كتاب الندوة الدولية الثانية التي أقامها قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود في 25 - 27 -2-2014 وعنوانها (قراءة التراث الأدبي واللغوي في الدراسات الحديثة)؛ فقد تجافى البحث عن جهامة العلم التي نعاني منها حين نقرأ أو نكتب، وتماهى فيه الإبداع اللغوي والإبداع العلمي من دون إخلال بأصول المنهج العلمي وقواعده الراسخة، وبرعت الباحثة في أن تنقل إلينا في سلاسة وكياسة مجالس العلماء نابضة بالحياة والحركة والحيوية، بما فيها من ثراء لغوي يذكيه شغف معرفي وترفده ألوان من العلل الاستدلالية، والإستراتيجيات الحجاجية، وتوجهه نوازع نفسية تشي بها تعبيرات انفعالية لفظية وجسدية، وتحكمه أعراف وثقافات اجتماعية، فضلاً عن جلاء لطرائق إدارة الحوار، وفعل السؤال والجواب، ومعايير التخطئة والتصويب، واختلاف مسالك الحوار وآلياته، مع التفاتات بارعة إلى إشكالات تصنيف كتب الأخبار، وما يعرض من تشابك الدلالات في الإحالات الضميرية المستكنة في فعل القول، والتمييز الذي ينفي اللبس بين مجالس الرواية والإملاء والإقراء، وبين المجالس وكتب الأخبار والمدونات التاريخية، مع عناية فائقة بالتفاصيل الدقيقة والسمات الفارقة بين المشاركين في المجالس الذين قد يصل بهم التنافس إلى الصراع ثم العداوة لافتة إلى ما أسمته (معجم العداوة)، وما أبدعته المجالس من تعبيرات مجازية، وما اختصت به اللغة الشفاهية من خصائص. ولم تكتف بما في المجالس من مسائل النحو والصرف، بل كان لها اجتهادات تستحق أن تعقد لها مجالس ومناظرات ومن أبرزها اجتهادها في كلمة (وقائع) التي صدرت بها عنوان البحث أهي جمع واقعة أم وقيعة؟ وما وزنها الصرفي؟ وأضافت إلى ما في المجالس من تساؤلات، تساؤلات كثيرة تركتها مفتوحة تنبيها لأذهان الباحثين وحفزا لهممهم.
وقد استطاعت الباحثة أن تلفت الأنظار إلى أن هذه المجالس تمثّل مشروعاً علمياً يستحق أن يفرغ له فريق من الباحثين من تخصصات مختلفة لدراسة ما فيه من قضايا حجاجية واجتماعية ونفسية وتاريخية. وتلك لعمري دعوة جديرة بالاستجابة إليها.
ولم يكن لكل هذا أن يعرض على النحو الذي قرأناه إلا بما تتميز به الأستاذة الكبيرة من «كاريزما علمية» وتمكن من التراث وما جد به العصر من معارف. لقد استوت المجالس بين يديها خلقاً آخر، إذ قصارى ما كان للغوي غيرها أن يكتبه عن هذه المجالس أو يوجه إليه طلابه في الدراسات العليا بحث (المسائل اللغوية والنحوية في مجالس العلماء) ليأخذها جافة مقطوعة من سياقها الحي فيعرضها على ما جاء في كتب اللغة والنحو، ثم يمضي لا يلوي على شيء!
لقد خرجتُ من قراءة هذا البحث بشوق شديدة إلى معاودة قراءة مجالس العلماء في ضوء ما قدمت من إضاءات تذكي ما أسمته (الشغف العلمي) بهذا اللون من الدراسات اللغوية.
فلها كل التحية والتقدير لما أبدعت وأمتعت.
- د. محمود نحلة