في البدء أحيي صحيفة الجزيرة وفكرة الكتابة عن شخصيات قدمت من علمها وحياتها.. ولا شك أن الكلمات تظل قاصرة عن الحديث والوفاء.
ثم إن الكتابة تغدو أجمل حين تكون عن قامة علمية ذات روح ندية وشفافة كالأستاذة الدكتورة وسمية ذات الحضور البهي التي يغدو العلم والمقام بها أجمل.
وهي اللغوية القديرة المتعمقة التي تجيد الرسم باللغة وتتنقل في بساتين المعرفة، تلتقط العلم وتصدره، متلقية واعية تضيف للنص قبل أن يضيف لها.
أ.د. وسمية المنصور فاعلة في البحث وحريصة على المؤتمرات والفعاليات العلمية، مهتمة باللغة واستعمالها بوصفها نشاطا إِنسانيا يؤدي غايات مستعمليها في التعبير عن أفكارهم وتحقيق أغراضهم والتواصل مع الآخر، فاهتمت بدرس اللغة في واقع الاستعمال، لذا شغلها البحث في اللغة المعاصرة والبحث في الدرس اللهجي.
فقد كانت من أوائل الباحثين الذين اهتموا بشكل اللغة في مستواها المكتوب في المنتديات الشبكية ورسائل الجوال فنشرت بحثها (من مستجدات الخطاب والتواصل - رسائل الجوال نموذجا) في الكتاب التذكاري لتأبين المرحوم الاستاذ الدكتور مصطفي النحاس زهران نشر جامعة الكويت - 1431هـ / 2010م).
وقدمت بحثها: من استعمالات اللغة المحدثة (العربيزي) الذي نشر في كتاب مؤتمر مواكبة الفصحى للعصر - الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة في الفصل الدراسي الثاني 1432هـ / 1433هـ ) وحقق هذا البحث ريادة شدت المهتمين بدراسة اللغة المعاصرة.
وكانت قد مهدت لهذا البحث بعدة دراسات بدأتها بالورقة البحثية التي قدمتها في ندوة (عودة إلى اللغة العربية من إعداد لجنة المرأة تابعة لمجلس الوزراء الكويتي تاريخ 27 أبريل 2008م عنوانها: الدلالات النفسية والسلوكية لدى المتحدث باللغة الأجنبية في غير سياقها).
ومن اهتماماتها باللغة المعاصرة قدمت ورقة بعنوان (اللغة ولاء وانتماء) الاثنين 27 جمادى الأولى 1434هـ الموافق 8 أبريل 2013م في الندوات المقامة ضمن فعاليات مهرجان التراث والثقافة.
وتوجهها إلى تأمل خصوصية لغة الشباب في بعض المناطق العربية، فشاركت بمحاضرة (من مستجدات اللغة المعاصرة) في الملتقى التنسيقي الأول للمؤسسات المعنية بخدمة اللغة العربية مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية محور (اللغة والشباب) من 27 - 29جمادى الآخرة 1434هـ الموافق 7 - 9 مايو 3013م. وقد أصدر المركز كتابا ضم بحوث الملتقى الطبعة الأولى كانت في محرم 1436هـ.
وما زالت الدكتورة وسمية ترصد التغيرات في الأبنية، وتحول الدلالات في التراكيب والصياغات المتفردة في لغة الشباب، وقد بدأت في إعداد معجم خاص بلغة الشباب ولا أعلم أين وصلت فيه، فإعداد المعاجم ليس بالأمر الهين على الباحث فكيف بمادة معاصرة سريعة التغير متفلتة، فالمفردة المستعملة اليوم تتغير غدا والصياغة تنتقل إلى دلالة جديدة فأعانها الله وسدد رميها.
ومن اهتماماتها باللغة المعاصرة أنها انكفأت على مراقبة الاستخدامات اللغوية في التلفزيون السعودي في دورة الصيف لعام 1422هـ ودورة رمضان في العام نفسه؛ فجاء بحثها (مستويات الاستعمال اللغوي في ساعات البث اليومي)، وقد نشره مركز البحوث في جامعة الملك سعود عام 1424هـ. ومن أهم ما رصدته في هذا البحث معوقات السلامة اللغوية في المادة التلفزيونية منها:
1 - صناعة النجوم فالتلفزيون يصنع من الشخصيات التي تظهر في ساعات البث نجوما، وذلك في كل حقل واختصاص، ولا تقتصر النجومية على المذيعين والمذيعات، بل يصبح نجما كل من يتكرر ظهوره على الشاشة الفضية، أو يكون ممن حقق شهرة في مجال جماهيري، كأبطال المسابقات الرياضية. ولأبطال كرة القدم السبق في هذا المضمار. كذلك يلمع الفنانون أبطال المسلسلات والأعمال الفنية الأخرى، والقادة من رجال السياسة، وبعض رجال الفكر والأدب وغيرهم. ومن الطبعي أن تتفاوت المستويات اللغوية لهذا الحشد من النجوم الذي يخطف أبصار المشاهد ولا يعني القائمين على ساعات البث التباين في المستويات اللغوية؛ فهدفهم تقديم الشخصية وما تمثله في حقلها الفني أو الرياضي أو الفكري، لكن هذا النجم له تأثير على المشاهدين، وتفعل لغيته الشخصية فعلها في شيوع طريقة النجم في الحديث. فإذا كان للنجم اختيارات لغوية في الأصوات أو المفردات أو صحة التراكيب فإنها تنتقل إلى المشاهد، ومن المشاهدين ممن يعجب بالنجم يلتزم حينها بتلك اللغة دون أن يمحص ما فيها.
2 - قد يكون الثراء اللغوي أحيانا عائقا حين لا يحسن المعد أو كاتب النص اختيار المفردة المناسبة. ثم إن كثيرا من البرامج يختلف فيها المعد عن المقدم؛ فبعض المذيعين لا يحسن قراءة المادة المعدة أو لا يستطيع النفاذ إلى فكر المعدّ، فلا يتمكن من اختيار الوقفات المطلوبة؛ مما يؤدي إلى اختلاط الجمل فيفسد المعنى.
3 - يأتي الاهتمام بالمستوى الصوابي بعد التيقن من سلامة المادة الإعلامية وموافقتها للمعايير الرقابية. وإن أمكن السيطرة على المواد المعدة سلفًا فإنَّ السيطرة على البرامج التي تبث حية متعذرة. بل إن بعض المواد المسجلة سلفًا لا تخضع لرقيب لغوي؛ ذلك أن هذه المهمة نادرة في الوظائف المدرجة في البرامج التلفزيونية.
4 - غياب الضبط اللغوي للنصوص المقروءة مثل نشرات الأخبار والبيانات.
5 - افتقار المذيعين إلى الدورات التدريبية المتجددة التي تنشط خبراتهم اللغوية وتقيم ألسنتهم.
6 - عدم التدريب الكافي على قراءة النصوص والتعجل في الظهور على الشاشة دون إعداد الأدوات الكافية للمذيع للاطلاع بتأن على المادة التي سيقدمها للمشاهد.
وتقول الدكتورة وسمية: للقنوات العربية وظائف مستحدثة في العصر الحديث فرضتها أهداف قومية ودينية. فهي قنوات تربط العرب المهاجرين بالوطن الأم وبلغتهم العربية وبدينهم، مما يجعل الالتزام بالفصحى غاية ومطلبا. وللتلفاز السعودي خصوصية بث الفترة الدينية من الحرم المكي أو المدني ويوم عرفة وغيرها من المناسبات الدينية مما يؤثر في جذب المشاهد خارج المملكة للمتابعة.
وتتساءل: هل استطاعت اللغة الإعلامية أن تعزز الفصحى ؟ وما أبرز خصائص اللغة الإعلامية ؟
وتجيب عن ذلك: لا ينكر عاقل الأثر الإيجابي للمناشط الإعلامية عامة والتلفزيون خاصة في توسيع مدارك المتلقي وزيادة حصيلته اللغوية، وأصبحت اللغة التي يتلقاها المشاهد لغة منطوقة مشتركة ذات فهم متبادل بين عدد كبير من المشاهدين وفي المملكة العربية السعودية وغيرها من الدول العربية نلحظ أثر هذه اللغة في مناطق التجمعات الكبيرة كالمدن الكبرى، ويتضح ذلك في البرامج الحوارية التي تستضيف متحاورين من مناطق مختلفة يمثلون ثقافات متعددة لكنهم يشتركون في تطريز حديثهم بمصطلحات يكون للتلفزيون الفضل بشيوعها. والخلاف القائم بين الباحثين يركز على الجانب السلبي للمادة اللغوية التلفزيونية، فالباحث يجد فئات كثيرة تتفاوت مراحلها العمرية ومستوياتها الثقافية تتسمر أمام التلفزيون، تختلف قدرتها على تلقي ما يقدم، كما يتباين انعكاسه عليها لا في الجانب القيمي والأخلاقي فحسب وإنما في مردوده اللغوي. ويمثل الأطفال النسبة الكبرى ممن يجلس أمام التلفزيون ساعات طويلة، ثم كبار السن ممن ليس لهم عمل، وبعد انتشار الفضائيات التي تبث دون توقف ارتفعت نسبة المشاهدين من الشباب والمراهقين. وإذا كان الانتقاء سمة المشاهد المثقف الذي لديه مشاغل كثيرة فإننا نلاحظ تقلص ساعات المشاهدة، مما يجعل عملية المشاهدة محدودة بالوقت المتاح له، وما يوافق اهتماماته، ويلبي احتياجات ثقافية وتوجهات فكرية؛ فإنَّ فئة الأطفال والأميين تشكل أكثر فئات المجتمع استهلاكا لساعات البث فهي تقبل على كل ما يبث دون انتقاء.
ومما تراه الدكتورة أن المتغيرات والمستجدات في الحياة العصرية استدعت نظرا جديدا في اللغة الإعلامية الموجهة للمتلقي، كما فصلت في أنواع المستويات اللغوية وفاق الفئة التي تخاطبها، ولما كانت ساعات البث متاحة لجميع الفئات مع ضعف في الدور الرقابي للأسرة فلا بد من التحرز عند اختيار الأنماط اللغوية في الرسالة الإعلامية، فالمتلقي يتلقى رسالة واحدة مع اختلاف المتغيرات الاجتماعية.
فاللغة الإعلامية يتجاذبها اهتمام كثير من العلماء وأهل الرأي وأصحاب القرار السياسي، فالإعلامي غايته إيصال الرسالة، واللغوي غايته الصحة والسلامة اللغوية، والتربوي ينظر إلى انعكاس أثر محتوى المنتج الإعلامي سلبا أو إيجابا، وتمثل الرسالة الإعلامية صوت القيادة وأصحاب القرار الرسمي فالهدف نقل موقفهم، وأن تكون الرسالة الإعلامية رابطة بينهم وبين المتلقي. ولا تغفل طموحات اللغة الإعلامية الموجهة عن تحقيق الوظيفة الاجتماعية للغة التي تهدف إلى التواصل مع المشاهد.
أما اهتمامها بالدرس اللهجي فهو صدى انتماءاتها البيئية وعشقها للتراث اللغوي في رحلتها الإِنسانية، وقد أثمرت دراساتها للهجات العربية عن بحوث نقف منها على :
- توظيف المأثور القولي في تنمية لغة الطفل / مجلة عالم الفكر ( المجلد الثامن والعشرون - العدد الثالث - يناير / مارس 2000م) المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت.
- من أمثال القصيم - دراسة في المضمون والصياغة / مجلة الدارة (العدد 3 - السنة الخامسة والعشرون 1999م) دارة الملك عبد العزيز - الرياض.
- منظومة القيم الاجتماعية في الأمثال الشعبية الفلسطينية ج/1 (مجلة العرب - دار اليمامة للبحث والنشر والتوزيع ج 3 و4، 46، رمضان وشوال 1431هـ الموافق أغسطس - سبتمبر 2010م )
الدكتورة وسمية لها جهودها البحثية والمحاضرات والندوات شاركت فيها من أجل ردم الهوة بين الفصحى العامية. ووظفت في دراساتها معطيات الدرس اللغوي الحديث مع التزامها بمنهج البحث العلمي.
د. ذكرى يحيى القبيلي - أستاذ اللسانيات المشارك - جامعة الملك سعود - جامعة صنعاء سابقا