الحمد لله الذي تكفل بحفظ كتابه، فأنزله قرآنا عربيًا غير ذي عوج، والحمد لله أن قيّض لهذه اللغة من يخدمها خدمة لكتابه الكريم، علماء تركوا بصمتهم - بأمر الله ومن بعده - في حفظ هذه اللغة بكل دراساتها وعلومها وأبحاثها.
وها هو العصر الحديث يُثبت لنا أن هذه اللغة مادة ثرية مازال أعلامها يتناوبون دراستها، ويسبرون أغوارها، ويتعهدونها بكل ما هو جديد، ومن هؤلاء العلماء والأساتذة البارزين الدكتورة وسمية بنت عبدالمحسن محمد المنصور من مواليد الكويت وتلاميذ الأستاذ عبد السلام هارون، وزوجة الدكتور إبراهيم الشمسان، لم تحصر نفسها في إطار المباحث الصرفية والنحوية المعيارية التقليدية لكن اهتمامها باللغة جعلها واسعة الطيف، فقد كتبت في النحو التقليدي من ذلك:
1) كان وأخواتها من المعجمية إلى الوظيفية.
2) ليس بين الفعلية والحرفية.
ومما كتبته في الصرف:
1) نقل الحركة في الصحيح.
2) ظاهرة تعدد الأبنية الصرفية.
3) صيغ الجموع في القرآن الكريم.
4) أبنية المصادر في الشعر الجاهلي.
وأجمل ما كتبت وتجد نفسها فيه ما كان قراءة في التراث مثل:
1) عيوب الكلام.
2) الخطاب غير المنطوق في ديوان عمر بن أبي ربيعة «محور البصر».
3) المرأة المحاورة - قراءة في التراث.
4) صورة المسن في التراث اللغوي.
5) محاورة بين الحجاج وفتى من أهل الكوفة.
6) الطرائف اللغوية.
وكتبت في اللغة المعاصرة:
1) مستويات الاستخدام اللغوي في التلفزيون السعودي.
2) من مستجدات اللغة المعاصرة (العربيزي).
3) رسائل الجوال.
4) مواقع التواصل الاجتماعي ظاهرة مجتمعية ومتغير حضاري.
وكتبت في الدرس اللهجي:
1) أمثال القصيم - الصياغة والمضمون-.
2) منظومة القيم الاجتماعية في الأمثال الفلسطينية.
3) توظيف المأثور القولي في تنمية لغة الطفل.
كما كانت تكتب زاوية في صحيفة اليوم من 1999- 2009م، كتبت فيها في موضوعات متنوعة لغوية وثقافية واجتماعية وسياسية، بمعنى أنها كتبت ما بين الحاءين (الحب - الحرب)، فهي موسوعة عربية بحق، تتميز كتاباتها وأطروحاتها ومؤلفاتها بالعمق والسلاسة والتنظيم المنطقي، والإشباع المعرفي، والقدرة على توجيه الخطاب الفئوي الذي يتناسب مع كل فئة معنية بالخطاب بأسلوب يرتقي لعقليات الخاصة ويرتقي بأساليب وأفهام العامة، في مجاراة واعية عجيبة لمتطلبات العصر من الدراسات اللغوية.
لقد انعكست الروح الوسميّة في الفكر والثقافة على مسار العملية التعليمية في جامعة الملك سعود وخصوصًا قسم اللغة العربية في كلية الآداب، فثمة اهتمام ملحوظ في كتابات ورسائل الدكتورة باللغة العربية، فقد دافعت عن لغتنا أيما دفاع في العديد من المؤلفات والدراسات والأبحاث، ومن يقرأ مؤلفاتها يتبين إلى أي مدى كانت الدكتورة مؤمنة بحيوية اللغة العربية، وبثبات جذورها تاريخيا، وبقدرتها على الصمود أمام التحديات التي تفرزها التطورات المتسارعة التي تحدثُ في اللغات البشرية في العصر الحديث، في دلالة على العقلية المتجددة الواعية لمستجدات العصر الحديث في اللغة العربية، والقدرة على مخاطبة هذا الجيل الجديد بما يتناسب مع طبيعته في ارتقاء بمستوى تفكيره، وتوسيع لمداركه، وتبصير له بوضع لغته؛ لِتُحَمِّلَهُ في ذكاء معهود وغير مباشر مسؤولية الحفاظ على هذه اللغة، وتعرّفهُ بدوره إزاءها الذي سيكون امتدادًا لأدوار جهابذة اللغة.
لن استفيض في ذكر علمها ومؤلفاتها فقد حُفِظَ بالتدوين، وبضغطة زر على الشبكة العنكبوتية تنفتح لك طاقات العلم الوسميّ لتنهل من معينه وترِدُهُ متى شئت عزيزي القارئ، ولكني أردت أن أنقل لك الجانب الآخر لأستاذتي التي شرفتُ بتدريسها لي في مرحلتي البكالوريوس والماجستير، الجانب المشرق بين أروقة الجامعة، وعبر وسائل التواصل، وفي الأماكن العامة، أردتُ أن أُعرّفك ما لا تعرفه عن أمنًا الروحية، أردت أن أُبين لك سرّ تعلقنا بها ودعواتنا الدائمة لها.
قديمًا قالوا لكل إنسان من اسمه نصيب. «وسمية « علم مؤنث لوسمي، يعني مطر الربيع، أو مجموعة من النجوم. «وسمية « اسم تحمله صاحبة القلب الكبير، والعقل المنير، فهي مطر وغيث للعقول والقلوب، وهي نجم في سماء جامعة الملك سعود، ونجوم في العربية وعلومها، هي هبة من الله لنا وللعربية، هي الجمال بكل أبعاده، هي روح تنبض بحب وعطاء لمن حولها.
سأحدّثُك عن ساعات المحاضرات والاختبارات، والنتائج، وبعد انتقالنا للمستويات الأخرى ولم تعد تدرسنا كيف كانت روحها تضللنا في اهتمام لم أعهده من قبل، وعناية لم أشهد لها مثيل، وماذا كتبت زميلات الدراسة عنها حفظها الله.
في المحاضرة رغم مرضها - حفظها الله وكشف ضرها - كانت أول الحاضرات إلى القاعة تنتظرنا بكل حب، وتبش في وجه كل طالبة تدخل القاع ة وتناديها باسمها وتسأل عن أحوالها في تواضع العالِم لطلابه، وكأنها المعنية بقول زهير بن أبي سلمى:
تَرَاهُ إذا ما جِئْتَهُ مُتَهَلّلاً
كأنّكَ تُعطيهِ الذي أنتَ سائِلُهْ
مبدأها قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} آل عمران (159)، فلم تكن تتخذ قرارًا بشأن الاختبارات والتكاليف والبحوث إلا بتحقيق مبدأ الشورى، في ديمقراطية حكيمة تعرفُ فيها متى تشد شعرة معاوية ومتى ترخيها، كانت حازمة من غير عنف، وليّنة من غير ضعف.
درّستنا مادة « أساليب البحث» فإذا نحن نبحر معها في بحر العربية الزاخر، فموجة تقلّنا للأدب وأخرى للنحو وثالثة في اللغة والبلاغة كان لها نصيب، والنحو والصرف كذلك في ثراء علمي عجيب، تبلغ فيه أقلامنا جهدها في محاولة لتدوين ذلك العلم وتسجيل تلك اللطائف، فإذا ما أسعفنا الوقت كنا كخلية النحل نتساءل عمّا فاتنا ونتبادل من بعضنا البعض بعد انتهاء المحاضرة.
لم يقف ذلك العطاء عند ذلك الحد بل كانت حريصة على تزويدنا بالتغذية الراجعة؛ لتُشْعِرَ الطالبة بمواطن ضعفها فتتداركها، وتعزز لديها جوانب القوة لتطورها، فقد اعتدنا أن ننتظر الدرجة بعد تسليم البحوث ولكن مع الدكتورة وسمية الوضع مختلف فهي حريصة على تدوين الملاحظات ليست العلمية فقط بل حتى في اختيار المفردات داخل التراكيب اللغوية، وعلامات الترقيم فإذا هي ترشدنا وترينا بضاعتنا لنجوّد تجارتنا مع العلم، فهو التجارة الرابحة.
لقد كانت مواقفها مع الطالبات وأنا أرصدها بعين تربوية، ونظر طالبة وإحساسي بضرورة نقلها محط إعجاب وتقدير فرض على أن أنقلها بأمانة لتكون نبراسًا لكل معلم ومربٍ وأستاذ، فقد درستني وأنا حبلى بابنتي لبنى واتفق أن يكون موعد الاختبارات مع موعد الوضع، ما حييت لن أنسَ حرصها على تقديم الاختبار في غير موعد الاختبارات وتكلفها عناء ذلك التقديم مع العمادة والقسم لأن إحدى طالباتها على وشك الوضع وتخشى أن يفوتها الاختبار، فقد كانت حريصة على سؤالي عن موعد ولادتي طبيًا لتقدم الاختبار. أبعد هذا يا سادة أُلام في الكتابة عن الأستاذة؟!.
لم يقف الأمر عند ذلك الحد بل كانت تتعهدنا بالسؤال والاتصال المباشر، فقد تأخرتُ يومًا في زحام الرياض عن الاختبار وأخذ مني القلق مأخذه والتوتر، فإذا بهاتفي الجوال يصدح باسمها فأرد عليها وتسألني بلهفة الأم الحانية «ابنتي لمَ تأخرتِ عن الاختبار؟ أتشعرين بألم المخاض؟» بِرَبّك أيها القارئ هل مرّ بك هذا المعلم وهذا الأستاذ إلا فيما نسمعه أو نقرأه من قصص العلماء مع تلاميذهم في كتب التراث؟ إنها رحمة الله وكرمه ومنه وفضله علينا أن جعلنا نعيش مع عالم من هؤلاء العلماء واقعًا له أثره في نفوسنا بلا شك.
الدكتورة وسمية تتعهد غراسها علمًا وفضلا وكرما، فهي دائمة السؤال لنا عبر المجموعة التوأصلية «الوثاب» عن اختباراتنا ومواعيدها ونتائجنا وترسل لنا الدعوات بالتوفيق حتى بعد انتهاء المستوى الذي كانت تدرسنا فيه، ففي هذه المجموعة تتعهدنا بالسؤال وإرسال الروابط العلمية والمواقع الإلكترونية المفيدة والمؤلفات والأبحاث والدراسات والمقالات العلمية، وكل ما من شأنه أن يرفع من مستوى الطالبة ويفيدها في دراستها وأبحاثها، فهي كريمة في العلم، كريمة في الخلق، كريمة في العطاء. تعلمنا منها التحليل والتعليل لكل رسالة ترد عبر الوثاب وتخص اللغة العربية في طرح علمي مبسط ندرك منه الصواب وأوجه الاختلاف.
يوم الاختبار مع الدكتورة وسمية له نكهة خاصة ليس كبقية الاختبارات، كيف لا وهي تميزه وتجعله أكثر تفردا بضيافة كويتية، وقهوة عربية، وخدمة فلبينية مميزة. قل بربك أيها القارئ هل غير الدكتورة وسمية من يفعلها؟!.
هل أخبرك عزيزي القارئ عن كرمها وطيب مجلسها؟ أم عن حسن حديثها وروعة منادمتها، هي الجليس الصالح حامل المسك الذي أخبر عنه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلِمَ لا بد أن تصيب من طيبه، هي النهر العذب الذي لا بد أن تغترف منه، هي النخلة المباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء، هي الجمال بعينه لا عدمناها.
عندما تخطئ الطالبة في قراءة كلمة من حيث التشكيل كانت تقف برهة لتبين الفرق بين معنى الكلمة عند تغير حركتها بأسلوب إنشائي يثير الذهن ويُعْمله ويحثه على التفكير والمقارنة، ويدربه على التقويم الذاتي ليدرك سلامة المعنى لسلامة التشكيل. وعندما يكون الخطأ في الضبط والإعراب فإنها لا تصوّب مباشرة بل تطلب إعراب ما قبلها ليضبط إعرابها ونطقها في عناية خاصة بالتعلّم الذاتي لا التعليم، فهي تدرك تمامًا مسؤوليتها في مخاطبة العقول كأوعية معلوماتية لا قوالب آنية.
حريصة على تبصيرنا بكل جديد، واقتراح عناوين البحوث والرسائل للماجستير وفائدتها وجدّتها والإضافة التي ستضيفها لعلوم العربية، فهي معين لا ينضب.
كانت غضْبتها إذا انتهكت العر بية في إخلاص ووفاء للغتنا الأم، فتعلمنا منها مزيد احترامها فصرنا نخشى تلك الغضبة، فإذا بنا نغضبها غيرة على عربيتنا وحبًا لها ولأستاذتها. وبالرغم من حرصها على الحديث بالفصحى والتواصل بها حتى خارج إطار الدرس ووقت المحاضرة إلا أنها كانت مرهفة الحس لكل كلمة عامية تقع على مسامعها فتسأل عن معناها وتبحث جذورها واشتقاقاتها حتى وجدنا أنفسنا نحاول مجاراتها، وكأنها أيقظت فينا الحس اللغوي أو غرست بذوره عند أخريات.
لم يكن قلمي وحده من كتب عن الدكتورة فكثير من الطالبات كتبن وسطرن في علمها وفضلها، ولو دُوّنت كتاباتهن لطال الحديث، وسأختار مقتطفات مما كتبته زميلاتي، فهذه «عمرة الرشيدي» وقد جاش قلمها بقولها «دكتورة وسمية المنصور ليست أستاذة درسنا على يديها وانتهت بها علاقتنا إلى هذا الحد، دكتورتي الغالية هي بالنسبة لي أم، كانت محاضراتها تمر سريعًا خفيفة ولكن ثقيلة بمعلومات كالذهب، تمنيت لو طال بنا الفصل الدراسي معها ولكن - الحمد لله - استمرت علاقتها بنا ولازلنا ننهل من علمها إلى اليوم لأنها لم ترض ولن نرض أن نبتعد عنها، فهي ثروة روحية وعقلية لا يمكن وصفها، فقلبها يسع الكون محبة وصفاء وسعادة وجمالا، بالنسبة لي هي أجمل شيء حصل لي في حياتي وفخر لي. أبقاك الله لنا وأطال بعمرك ونفع بعلمك يا غالية» أما «ثمرة البقمي» فقد كتبت «أرى نفسي محظوظة عن باقي زميلاتي في مرحلة الماجستير كوني قد درست لدى الدكتورة وسمية المنصور في مرحلة البكالوريوس، لا أخفيكم في البداية أني كنت أهابها ربما هيبة العلماء أحسست بها لكن بعد ذلك كانت الدكتورة كالأم لنا تحتوينا تجيبنا بكل وضوح تقترب منا كثيرًا حتى إذا ما أُشكل علينا موضوع لم نفهمه أو نحتاج لزيادة لم نكن نحس بحرج فنجدها أحرص منا على إيصال المعلومة بشكل صحيح، أما خارج الدرس فهي كالأم بالنسبة لنا تبادر بالسؤال عن دراستنا وأحوالنا حتى إنها تشاركنا مناسباتنا وأفراحنا بحضورها، ما تفعله الدكتورة وسمية لطالباتها بقي في نفوسنا وكان له الأثر الطيب أتمنى لو كانت علاقة كل معلم مع طالبه كهذه العلاقة الطيبة وأكثر حتى نكون مجتمع محب للمعلم يسعى للمعرفة، كتبت هذه المشاعر ربما لم استطع أن أعبر لكم عن كل ما قدمته لكن أثق تمامًا أن من يعرفها يتفق معي ويؤكد على ما قلت..جزاها الله خيرًا عمّا قدمت» وهذه الكتابات جزء مما كتب واكتفيت به تحرجا من الإطالة.
عذرًا أيها القارئ فرغم كثرة كتاباتي الذاتية التي لم تنشر من قبل لم أحتر يومًا في الكتابة بل أجد نفسي منقادة للكتابة بتنظيم واعٍ أو غير واعٍ لكنه مترابط في نسق جميل أتلذذ به بعد مراجعته، لكني هذه المرة أجد نفسي أمام موضوع محدد إلا أن أفكاره تتناسل بصورة عجيبة أعيتني عن تنظيمها أو ترتيبها في نظام معين، أو تربيتها لتنصاع لي في نسق إنشائي متكامل الرؤى، فأنا كمحمد علوان «لا أحب الكتابة الثديية تلك التي تلد وتهتم بصغارها، بل أحبذ أن أترك ما أكتبه ليواجه الحياة وحده، ويتعلم الصمود وحده، فلن أكون معه عندما يواجه قارئًا ما»، فما كتبت إلا إحساسا، وما سطرت إلا نبضا صادقًا من قلب صادق، أثق أنه سيلامس قلب ذلك القارئ وسيلتمس لي العذر أن أخطأت أو أخّرت أو قدمت أو كررت؛ لأن من كتبتُ عنها قد أضرمت كل مشاعر الحب والوفاء والتقدير في داخلي، وحُقّ لها ذلك.
أستاذتي أن الكلام عن عبقرية الإنسان ورسالته ومظاهر سموّه العلمي والأخلاقي، وما خلّفه من آثار وبصمات في عقول العلماء وطلاب العلم يحتاج إلى مزيد جهد، وبحث طويل.
أستاذتي لو كنت أملك من مفردات اللغة ما تملكين لكان لقلمي مطمع في أن يدنو من الوفاء بما يوجبه حقك، ويجري في الشكر إلى الغاية كما يطلبه فضلك لكني أرجو عفوكم عن التقصير في وصف فضلكم، ففي الثناء، وملازمة الدعاء، وحفظ الجميل، وتبليغ العلم، واللجوء إلى الله في مكافأة فضلكم، وفاء لكم، وعذرًا لتطفلي على مقامكم العالي ناطقة بتقصيري.
على بابِك العالي من الفضل راية
على رأسِ أرباب المعارف تخفقُ
فعلمكِ جنّاتٌ وحلمك جِنّةٌ
وكلك خيراتُ، وغيثكِ مغدقٌ
إذا رمتِ إنشاء فعن صدق فكرة
تهادى بأبكارٍ وغيركِ يسرقُ
أستاذتي الدكتورة وسمية المنصور إذا كان الكمال سمات شيء فأنت من يحقق ذا الكمال، تمثلين العطاء بلا حدود، تجسدين الحب بكل أبعاده، أنت رمز للعالِم الحق، دمتِ بخير.
- ندى بنت سعد الشنار