ومع هذا فإن لنا عدد من الملاحظ على منهجية الدكتور عسيلان في تعليقاته وتخريجاته لنصوص ما حققه من كتب:
أولاً- مخالفة المتفق عليه في تخريج النصوص الحديثية الشريفة، مكتفياً بذكر عنوان المصدر، والمؤشر المكاني لورود الحديث فيه (الجزء - الصفحة)، وأحيانا رقم الحديث؛ والمتبع في هذا الباب تخريج الحديث: بذكر المصدر - ثم الكتاب - ثم الباب الذي ورد فيه الحديث - ثم المؤشر المكاني: الجزء والصفحة ورقم الحديث إن وجدت.
فقد خرّج حديث أبي هريرة الوارد في كتاب: الاجتهاد في طلب الجهاد، فقال (ه3): رواه البخاري في الصحيح 4 -41، والمتبع في هذا السياق أن نقول: الحديث في صحيح البخاري، كتاب فضل الجهاد والسير، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله (ق2) 4 -41-42.
ثانياً- عدم ذكر مراجع عند شرحه ما يراه في حاجة إلى شرح من الألفاظ اللغوية الغامضة، فلا يوجد ذكر لأي معجم في ما حققه وشرح في هوامشه ألفاظ لغوية مبهمة!.
ثالثاً- التقصير في ذكر المؤشر المكاني (الصفحة أو الجزء والصفحة) عند تخريجه النصوص الواردة في كتبه التي حققها،
انظر: البديع ص: 49 -هـ؛ هـ4 : وفي ص: 9 -هـ1 يقول: في التشبيهات: أنهاءه! بلا ذكر للموضع فيه: وهو في التشبيهات ص:46 فقرة 55.
رابعاً- التعسير على مستعملى تحقيقاته، لقد وقع من المحقق الكريم بعض إجراءات صبت في جلب العسر على مستعملي ما حققه من كتب:
(أ) ولعل أصرح هذه الإجراءات ما يظهر من الإحالات التي صنعها في عدد من هوامش كتبه المحققة يقول -مثلاً- في هـ1، ص: 57 تعليقاً على ذكر أبي حفص أحمد بن محمد بن برد، في متن كتاب البديع: س9-10: «مضت ترجمته! هكذا بلا عزو للمكان، ولم تسبق ترجمته في النص.
ولم يمر قبل هذا الموضع، وإنما جاء بعدًا مرتين في: ص63 -3 و130 -6!.
(ب) ومن ملامح التعسير أيضاً عدم تكشيف كل المكونات الصغرى، وأصرح ما وقع منه هو عدم تكشيف كل القوافي الواردة في المتن في كشاف الشعر.
ومن ذلك ما ورد في البديع: ص 8-9 خمسة أبيات كشف منها الأول فقط في كشاف الشعر: ص181، من غير ذكر لعدد أبيات النتفه الشعرية، بجوار القافية المكشفة: وهذه من بدع الكشافات التي أشار إليها نفر من المنظرين في علم تحقيق النصوص التراثية.
(ج) ومن أخطر الإجراءات التي تقع في الصميم من مفهوم التحقيق التفريط في ضبط كثير مما يحتاج إلى ضبط.
وأصرح مثال على ذلك غياب الضبط عن أسماء الزهور في كتاب البديع في وصف الربيع، فلم يضبط كثيرًا من أسماء الزهور والرياحين مع حاجتها إلى الضبط، ومن أمثلة ما غاب عنه الضبط مع الاحتياج إليه:
- البديع، ص: 112: الخيري النمام، وضبطه: بكسر الخاء المعجمة وياء مثناة تحتية مدية وراء مهملة مكسورة، وبعدها مثناة تحتية مدية، كما في: منهاج البيان في ما يستعمله الإنسان لابن جزلة البغدادي (تحقيق الدكتور محمود مهدي بدوي، ومراجعة الدكتور فيصل الحفيان، معهد المخطوطات العربية، القاهرة، سنة2010م: ص362 -856).
- البديع، ص:153: الشقر، وضبطه بفتح الشين المعجمة المشددة وكسر القاف! كما في: منهاج البيان: ص534 -1400
- البديع: ص:162 ضبط: الجلنار، بكسر اللام وتشديدها، والصواب: بالفتح مع التشديد، كما في منهاج البيان :262 -514
(2 -6) التقديم للنصوص.
التقديم للنصوص المحققة، أصل مهم لإعدادها للنشر المعاصر، وقد خصص الدكتور عسيلان جزءاً في تنظيره لما يجب على المحقق الوفاء به قبل نشر ما حققه:
(أ) وقد جاءت تطبيقاته متفاوتة في الوفاء بما قرره في التنظير، فعلى حين اعتنى بصنع قائمة لمن صنف في الجهاد في مقدمة تحقيقه لكتاب: الاجتهاد، لابن كثير، بعنوان: ثبت بآثار العلماء والمؤلفات حول الجهاد : ص39-46، وهو أمر مهم متفق عليه في أدبيات تحقيق النصوص في التقاليد العربية على الأقل، نراه قصر فلم يصنع هذه القائمة لكتب التطفيل وأخبار الطفيليين في التراث العربي، في مقدمة تحقيقه كتاب: التطفيل، للخطيب البغداداي.
(ب) وكذلك تفاوت تعامله في تراجمه لأصحاب الكتب التي حققها، فعلى حين ترجم للحميري الإشبيلي ت440هـ صاحب كتاب البديع بالعناصر التالية:
1- اسمه ونسبه وأسرته (ص:9).
2- نشأته وصلاته الأدبية والاجتماعية (ص:10).
3- مكانته العلمية والأدبية (ص:14).
4- ومادته وآثاره (ص:15).
نراه في ترجمته للخطيب البغدادي ت 463هـ يورد العناصر التالية في مقدمة تحقيق كتاب التطفيل:
1- اسمه ونسبه وأسرته (ص:13).
2- مولده ونشأته وأهم مراحل حياته (ص:14).
3- ملامح شخصيته (ص:16).
4- المسي رة العلمية (ص:17).
5- مكانته بين العلماء (ص:21).
6- نهاية المطاف (ص:22).
ومن ذلك يبدو ما يلي من سمات مقدماته بين يدى تحقيقاته:
أولاً- الاضطراب والتفاوت في عناصر المقدمة.
ثانياً- الاضطراب والتفاوت في عناصر كل محور من محاور المقدمة.
ثالثاً- عدم وضوح منهجية خاصة في صناعة مقدمة التحقيق.
(ج) الإخلال بمبادئ صناعة كل جزء من عناصر مقدمة التحقيق، لقد ظهر التفاوت والاضطراب في صناعة الأجزاء التالية:
1- ترجمة صاحب الكتاب المحقق.
2- الاضطراب في الوفاء بالتراث العلمي في فن الكتاب حضورًا وغيابًا، وكذلك بدا النقص في العناصر التالية:
- الوصف المادي للمخطوطات
فعلى حين اعتنى في مقدمة تحقيق كتاب الاجتهاد، لابن كثير ببعض عناصر الوصف المادي للمخطوطة المعتمدة ممثلة في ذكر الخصائص المادية التالية:
1- نوع خط النسخة (ص:49): نسخي واضح، بقلم عريض.
2- عدد ورقاتها: 38 ورقة.
3- مسطرتها:20× 14سم وفي الصفحة: سبعة أسطر.
4- تاريخ نسخها: سنة 784هـ وناسخها: محمد بن سليمان الصالحي.
5- خصائص كتابتها.
نراه يسكت عن أي وصف مادي للمخطوطة التي اعتمدها في إعادة تحقيق كتاب البديع، للإشبيلي!
ثم نراه في مقدمة تحقيق كتاب التطفيل (ص:41-42) عند الكلام عن مخطوطتى الكتاب يقصر في الوصف المادى!
(2 -7) الكشافات (الفهارس):
اعتنى الدكتور عسيلان بتكشيف معلومات ما حققه من كتب، وقد بدت هذه العناية في ما يلي:
أولاً- حضور الكشافات في جميع ما حققه من نصوص تراثية.
ثانياً- تنوع الكشافات في جميع ما حققه من نصوص تراثية.
ثالثاً- التوجه إلى إعادة نصوص نشرت من قبل بسبب اضطراب كشافات هذه النشرات السابقة، على ما ذكر في مسوغات إعادة تحقيق كتاب البديع، للإشبيلي.
فقد وقع منه بعض المآخذ على ما صنعه من كشافات من مثل:
أولاً- عدم تكشيف كل الأبيات الشعرية الواردة في المتن، وعدم الإشارة إلى الاختصار (فقد كشف بيتاً واحداً من قصيدة عدة أبياتها واحد وعشرون بيتاً في ص:87 من كتاب: التطفيل)!.
ثانياً- وكذلك تكشيفه الآيات القرآنية الكريمة على خلاف المتفق عليه في تكشيفها، ففي كشاف الآيات في تحقيق كتاب: الاجتهاد، لابن كثير، ذكر الآية، وأمامها المؤشر المكاني (الصفحة) لموضع ورودها في المتن. والمتفق عليه، ترتيب الآيات وفق أسماء سورة الكتاب العزيز، مع ذكر رقم الآية، ورقم السورة أحياناً.
ثم عاد ففعل بدعة جديدة، عندما كشف الآيات في كتاب التطفيل (185) بحسب الحرف الأول من القطعة المستشهد بها من الآيات!.
الخاتمة:
إن الوقوف أمام منجز المعاصرين من المحققين والمنظرين في حقل التحقيق أمر مهم لدعم دراسات تحقيق النصوص التراثية وتطويرها.
وقد كشفت هذه الورقة عن منجز الدكتور عبدالله بن عبدالرحيم عسيلان بما يجعله من المحققين المعتبرين، والمنظرين الجادين في حقل تحقيق النصوص التراثية، وهو الحكم الذي حازه بموجب أمرين:
1- سهمته في التنظير العلمي لعلم التحقيق.
2- سهمته في تحقيق عدد جيد من النصوص التراثية في الأدب، والتاريخ.
وقد كشفت الورقة عن عدد من النتائج:
أولاً- تمدد منجز الدكتور عسيلان وتنوعه تنظيراً وتطبيقاً في حقل التحقيق.
ثانياً- وعيه بمعايير جودة اختيار النصوص للتحقيق، بتحكيم معايير:
1- القيمة العلمية.
2- شهرة المؤلف.
3- الارتباط بالاختصاص العلمي.
ثالثاً- التوافق مع عدد من المبادئ التي قررها في تنظيره، والالتزام بها عند التطبيق.
رابعاً- مخالفة عدد من المبادئ التي قررها في تنظيره، وعدم الالتزام بها عند التحقيق، والاضطراب في تطبيق عدد من البرامج الفرعية في العلم.
خامساً- الوفاء لمجمل أصول التحقيق المستقرة في تقاليد العلم.
............................................ انتهت
** ** **
المراجع:
1) الاجتهاد في طلب الجهاد، لابن كثير الدمشقي، ت 774هـ، طبعة مؤسسة الرسالة، بيروت سنة 1401هـ -1981م.
2) أصول نقد النصوص ونشر الكتب، لبرجستراشر، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1969م.
بتقديم الدكتور عبدالستار الحلوجي، دار المريخ، الرياض، 1984م.
3) أنشودة المتن والهامش، نحو إحياء جديد لعلم النصوص التراثية، د. خالد فهمي، تحرير: هالة القاضي، دار النشر للجامعات، القاهرة، 2015م.
4) البديع في وصف الربيع، لأبي الوليد، إسماعيل بن محمد بن عامر بن حبيب الحميرى الإشبيلي، ت440هـ، تحقيق: هنري بيريس، مكتبة الإسكوريال.
تحقيق: الدكتور عبدالله بن عبدالرحيم.
- أ. د. خالد فهمي*