إن الهدف وراء قراءة الأدب العربي بمنظور نقدي مختلف قائم على أساس الوعي بأن هذا الأدب في مجمله وليد التفاعل الثقافي والمعرفي، وتُعد نظرية التّناص النقدية صورة من صور هذا التلاقح الثقافي المخصب، يعتمد الكاتب في مفهومها على فكرة إلغاء الحدود بين النص والنصوص أو الوقائع أو الشخصيات التي يضمنها نصه الجديد فتفتح آفاقاً أخرى دينية وأسطورية وأدبية وتاريخية جمة، فيصبح النص غنياً بالمدلولات والمعاني.
وفهم النص ثم تأويله يرتكز على إدراك هذه المدلولات، ومن ثم يقف قارئ النص بقوالبه الثقافية والمعرفية.
فالتناص بالمفهوم الحديث لا يعني مجرد استحضار النصوص المقتبسة، وإنما يقوم على فتح حوار مع النص المقتبس، بهدف توظيفه وإعادة إنتاجه ربما برؤية مختلفة قد تنتهي به إلى حد المفارقة.
ومن يقرأ أشعار أبي العلاء يجد أنه يستقي التناص من منابع عدة أسطورية، ودينية، وشعرية، وعلينا حينئذٍ أن نبحث عن مصادره و نتعرف على كيفية استثمار الشاعر لها، فالتناص الأسطوري يبرز من خلال الأسطورة وهي: «حكاية تقليدية، تروي وقائع حدثت، في بداية الزمان، وتهدف إلى تأسيس أعمال البشر الطقوسية حاضراً، وبصفة عامة إلى تأسيس جميع أشكال الفعل والفكر»، ويعتمد الشاعر في تشكيله الشعري على تداخل هذه الروايات الأسطورية مع نص قصيدته تداخلاً عضوياً.
ونموذجها في شعر أبي العلاء قوله يرثي فقيهاً حنفياً:
ضَجْعَةُ المَوْتِ رَقْدَة يَسْتَريحُ
الجِسْمُ فيها، والعَيْشُ مِثلُ السّهادِ
أَبَناتِ الهَديلِ! أسْعِدْنَ، أوْعِدْنَ
قليلَ العَزاءِ بالإسْعَادِ
إيهِ! للّهِ دَرّكُنّ، فأنْتُنّ
اللواتي تُحْسِنّ حِفْظَ الوِدادِ
ما نَسيتُنّ هالِكاً في الأوانِ
الخَالِ، أوْدَى مِنْ قَبلِ هُلكِ إيادِ
أراد الشاعر أن يعبر عن حفظه لوداد صديقه، وأنه لن يكف عن بكائه متى طال العهد به مستوحياً بذلك الأسطورة القائلة: إن الحمائم لا يزلن يبكين الهديل والهديل (اسم واحد من الحمام) كان على عهد نوح عليه السلام، فصاده جارح من جوارح الطير، قالوا فليس من حمامة تهتف إلا وهي تنوح عليه، لذا ينسب الشاعر إلى الحمام حفظهن الوداد، وتأكيد هذا الحفظ أنهن لم ينسين هالكاً فيما مضى من قديم الزمان قدم هلاك إياد بن نزار بن معد بن عدنان.
وقوله في قصيدة يمين المكارم ولسانها:
ومِن أُمّ النّجومِ عليه دِرْعٌ
يُحاذِرُ أن يُمِزّقَها الطّعَان
وقد بَسَطَت، إلى الغَرْبِ، الثُريّا
يداً غُلقَتْ بأنْمُلِهَا الرّهان
فقد ضمّن الشاعر في البيت الثاني إشارة لأسطورة من أساطير العرب مثّل بها لمدلول المعنى المراد تقول: للثريا كفين، كف خضيب أي مبسوط، وكف جذماء أي مقبوضة، فيرى أبو العلاء حال الثريا عند غروبها وكفها الجذماء في جهة المغرب، كأنها أخذت بها رهناً فقبضت عليه احتفاظاً به.
ومن قصيدة إخواننا بين الفرات والجلق التي مطلعها:
طَرِبْنَ لضَوْءِ البَارِقِ المُتَعالي
بِبَغْداد، وَهْناَ، ما لَهُنّ، وما لي
يقول فيها:
إذا لاح إيماضٌ سَتَرْتُ وُجوهَها
كأنَّي عَمْروٌ، والمَطِيُّ سَعالي
فالإبل طربن شوقاً لما رأت البارق وهو السحاب الذي معه برق بغداد، فسمت الأبصار نحو هذا البارق، فأسرع يستر وجوه الإبل لئلا ترى برق الوطن فتحن إليه، كأنه عمرو والمطي سعالي، تضمّن هذا البيت أسطورة زُعم فيها، أن عمرو بن يربوع تزوج سعلاة، وهي أنثى الغول، فقيل له: إنك ستجدها خير امرأة ما لم تر برقاً، وذلك لأنها إذا رأت البرق فارقته، فكان إذا لاح برق سترها، وولدت له أولاداً، وذات ليلة غفل عنها فلاح البرق، سارت ولم يرها بعد ذلك.. فكشف الشاعر بتناصه الأسطوري عن تناقض مشاعره بين الفرحة الشديدة بنور الوطن وعلوه بالبارق والخوف الشديد من أن يبعد عنه فيحزن لحنوه إليه، مضمناً شعره أسطورة عمرو لتجسّد تضارب المشاعر والأفكار.
وبالتدقيق في النماذج السابقة نجد أنه لا يوجد فاصل بين مضمون الأساطير، ومدلول أبيات الشاعر، وعندما أذاب الشاعر بين المدلولين تناصاً تشكّل المعنى الشعري. يقول د. عماد علي الخطيب: «إنَّ الأسطورة تستدعي شيئاً أكثر من كونه «قابلاً للتصديق» بل شيئاً كان في إحدى النواحي «يُصدَّق به» بطريقة معينة».. وأما التناص الديني فقد سُمي قديماً بالاقتباس، ثم تطور المصطلح لفكرة التضمين، فالتناص نظرية نقدية حديثة، يعتمد الشاعر فيها على توظيف التناص اللفظي والتناص المعنوي وكذلك الأسلوبي والتاريخي والحضاري مع القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف في النصوص الشعرية، ومنها ما يجيء ظاهرياً ويطلق عليه (التناص الواعي والشعوري)، ومنها ما يُعد لا شعورياً ويُسمى (بتناص الخفاء) ويكون فيه المؤلف غير واع بحضور نص في النص الذي يكتبه.
وأشكال التناص الديني في شعر أبي العلاء المعري متعددة لفظاً وأسلوباً ومعنى، وبرزت شاعرية أبي علاء في ظهوره تناصاً خفياً، فحمّل الشاعر معاني النصوص المتناصة دلالات المعاني الشعرية التي يكتبها داخل القصيدة. نموذج ذلك قوله في قصيدة عن الخير مطلعها:
لِلْخَيْرِ مَنْزِلتَانِ عند مَعَاشِرٍ
ولَهُ عَلَى رأْيٍ ثلاثُ منازِلِ
يقول:
وَتَصُون حًبَّةُ خَرْدَلٍ قدمَ الفَتَى
عن زَلَّةِ واليومُ حِلْفُ زلازِلِ
فيستدعي القارئ في هذا البيت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «اتَّقُوا النارَ ولو بِشِقِّ تَمْرةِ، فَمَنْ لم يَجِدْ شِق تَمْرةٍ فبكلمةٍ طيبة». مثّل شق التمرة بحبة الخردل، والكلمة الطيبة، تصون عن زلةِ، فوظف التناص لتشكيل معناه عن منازل الخير، ويجيء في البيت التالي بالتناص محذراً دعوة المظلوم قائلاً:
خَفْ دعوة َالمظلومِ فَهْي سريعةُ
طلعتْ فَجاءَتْ بالعذابِ النَّازِلِ
وفي نصه تناصاً مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث:»واتَّقِ دَعْوَةَ المظلومِ فإنّه ليس بَيْنَها وبين الله حِجَابُ».. فكانت سرعة الجواب لدعاء المظلوم في النص، لأن ليس بينها وبين الله حجاب كما جاءت في الحديث.
ومن تناصه اللفظي قوله في اللزوميات:
وادَّعى الهَدْي في الأنامِ رِجالٌ
صحَّ لي أنَّ هَدْيَهُمْ طُغيانُ
فَلَكٌ دائرٌ أَبَى فَتَياهُ
وَنْيةً أو يُفَرَّقَ الفِتْيانُ
ونُفُوسٌ ترومُ إرْثاً وما
الْوارثُ إلاَّ المهَيمِنُ الدَّيانُ
يرى أبو العلاء أن الحياة عناء، وما تُعاينُ من أذاها يقوم لك مقام الإخبار عنها، فارحم نفسك عن طلبها فلا يملكها ولا يرثها إلا المهيمن الديان، والمُهيمن: صفة من صفات الله عزَّ وجل واختلف في معناها فقيل: هو الشاهد وقيل هو: الرقيب على الشيء، فجاء التناص في القصيدة متضمناً قوله تعالى (ومُهيمنا عليه) في سورة المائدة (48) ليضمنها الشاعر دلالته الرمزية للمعنى الذي يرومه.
من خصائص التناص أنه يحدث تماساً بين الماضي والحاضر، فالكاتب يدرك العلاقة التي تربط نصه بنصوص أخرى، فيضمنها نصه سواء بصورة التنصيص أو التضمين دون التنصيص، ويؤدّي بذلك إلى تشكيلات تداخلية. ومن أكثر الظواهر فاعلية في عملية الإبداع هي التماس بين النصوص الشعرية؛ ليقف القارئ أمام النص الجديد حائراً يبحث بين دلالات الألفاظ المتناصة مع معنى القصيدة.. ونرى ذلك عند أبي العلاء المعري فقد وظّف التناص الشعري في قصائده مثال ذلك قوله في قصيدة ابق في نعمة:
كان كالأُفْقِ حين همّتْ به
الشمسُ تَنَادَتْ نُجومُه بالمَسيرِ
يا لها من نِعْمَةً، وليسَ ببِدْعٍ
أنْ تَحُوزَ الشّموسُ رِقَّ البُدور
يقول حين نزل الهدى بالقصر وارتحل غلمانه كأفق السماء حين طلعت الشمس غابت كواكبه، وليس بعجب أن تغلب الشموس ببهائها وضيائها على البدور فالقارئ يستحضر - عند قراءة هذا المعنى - بيت النابغة الذبياني في مدح النعمان بن المنذر:
فإِنّك شمس والملوك كواكب
إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
فالتناص هنا أعطى للقصيدة بُعداً آخر، إذ يغنيها، ويغني تجربتها، ورؤيتها الوجدانية، فتماثل الصورة حقق إثراءً للانفعال.
كذلك حين قال في القصيدة نفسها:
قد أتاك الربيعُ، يفعلُ ما
تأمُرُهُ فِعْلَ عبدكَ المأمور
وكسا الأرضَ، خِدْمَةً لك
يا مَوْلاهُ دونَ المُلوكِ، خُضْرَ الحريرِ
فهْي تَخْتَالُ في زَبَرْجَدةٍ
خضْرَاءَ، تُغْدَى بلُؤْلُؤٍ مَنْثُُورِ
يقول لما نفذ أمره في كل شيء انقادت الأزمنة، حتى إن الربيع قد أتاك مزيناً الأرض بالأزهار ابتهاجاً، كما يفعله عبدك الممتثل لأمرك، وألبس الربيع خضرة، خدمة لك دون سائر الملوك، فاخضرت الأرض بالنبات فهي تختال في لباس من زبرجد، وقد سقط الندى فكأنه اللؤلؤ المنثور.. فهذه شكل الربيع عند المعري، وهذه هي صورة ممدوحه، والقارئ لهذا النظم يستحضره المتلقي قول البحتري في مدحه للمتوكل:
أَتَاكَ الربيعُ الطَّلقُ يختالُ ضاحكا
من الحسن حتى كادَ أن يتكلَما
وقد نَبَّهَ النَّوروزُ في غَلَسِ الدُّجى
أَوائِلَ وردٍ كُنَّ بالأمسِ نُوَّما
فربيع المعري هو ذاته ربيع البحتري يجيء مختالاً ليكسي الأرض جمالاً ونضرة وزهراً وبهاء.. وصورة ممدوحه مماثلة لصورة المتوكل في النص المتناص، فأرمزها فكرة مطبوعة لصورة الممدوح في التراث.
كذلك ما نظمه في اللزوميات قائلاً:
قدْ يسأمُ الحيُّ والأسرارُ ما خَلصَتْ
في حُبِّها الموتَ منْ سَبْطِ ومن رَجِلِ
قد يملَّ الإنسانُ طولَ العمر لما يكابده من السِّنِّ، وعوارض الكِبر أو غير ذلك، ويود ذلك إلا أنه لا يصدق في ذلك، ولا يَخْلُصُ سِريرته لما جُبِلَ عليه من حُبِّ الحياة، وبيَّن ذلك في البيت قبله منهم زهير بن أبي سلمى يقول:
سئِمْتُ تكاليفَ الحياةِ وَمَنْ يَعِشْ
ثمانينَ حَوْلا - لا أبالكَ - يَسْأم
وقول لبيد:
ولقد سئمتُ من الحياةِ وطُولِها
وسؤالِ هذا الخَلْقِ: كيف لَبيدُ؟
فتناص أبي العلاء الشعري في الأبيات السابقة طبيعي وتلقائي، وهو ما يُسمى بالذاكرة أو الموروث العام، ما ضمنه في أبياته السابقة أشبه بالتداعي الحر لما أوقعته صور هؤلاء الشعراء في نفسه، تماثل معهم في المعنى لكنه تباين في التشكيل، فولدت الأشعار تراثاً عربياً في يد القارئ - المتلقي وأكسبته معنى دلالياً جديداً يقول عبد الناصر حسن: «لم يعد دور المتلقي دوراً سلبياً استهلاكياً في صلته بالنص، ولم تعد استجابته للنص استجابة عفوية ترضي تعطشه الجمالي، بل أصبح هذا القارئ مشاركاً في صنع المعنى».
مريم الشنقيطي - الرياض