قد يتوقف الزمن عند نقطة معينة ولا يستطيع المجتمع تجاوز تلك النقطة، إنها النقطة الصنمية في كل مجتمع هي نقطة يدور حولها المجتمع ويظل يدور إلى أن يأتي من يحطم أصنام تلك النقطة.
إن المجتمع الحديث يتجاوز نقاطه الصنمية للانطلاق، بل يتخذ من الأوضاع الصنمية دافعاً لتحطيمها ولتجاوزها «ما هذه الأصنام التي أنتم لها عاكفون»
ولكن المجتمع المقلد أو التقليدي أو المجتمع شبه الحديث يقع في التصنيم من غير وعي إما حفاظاً ودفاعاً عن هوية وإما بدافع التماسك في وجه هبات الأعاصير التغييرية وإما بدافع من مصالح آنية لفئة محدودة داخل المجتمع.
مسألة التصنيم تطرح لنا استعمال هذا اللفظ أولاً استعمالاً مولداً يدخل فيها معنى الاهتمام الزائد عن الحد بالشيء وعدم السماح بالتعرض له أو توجيه النقد إليه، وليس بمعنى التأليه الذي قد يتبادر إلى الذهن، فالتصنيم بهذا المعنى قد يكون مولد وترجمة للكلمة الإنجليزية (idolization )، ولعل الوزن (تفعيل) حمل مع هذا المعنى المولد الإشارة إلى دلالة التثبيت وليس دلالة المبالغة في الفعل التي أشار إليها القدماء فيه أي أن الثبيت في وزن (تفعيل)، هي الدلالة الأصوب كما أظن، بعد هذا الفرش التقديمي لا بد لنا من الانتقال إلى (التصنيم والتثبيت) اللذين صارا شعاراً ودثاراً لأكثر أنديتنا الأدبية نشاطاً وتميزاً قبل أن يصنم ويثبت، ولعل الإنجازات التي حققها نادي جدة الأدبي الثقافي في الماضي هي التي جعلته يصنم ويثبت أوبالأصح يتصنم ويتثبت أي أنه يقوم بالفعل ذاتيا ولا يفرض عليه من خارج الذات.
لقد كان ملتقى النص من أهم الملتقيات التي أسست للدرس النقدي الحديث، وكانت مجلة علامات لساناً آخر لهذه الحركة النقدية الوثابة، وكانت التسمية في حد ذاتها تسمية مواكبة للبنيوية وما بعدها، وللحداثة وما بعدها، وكان المؤمل من هذا الملتقى أن يستمر في الاهتمام بالنظريات الحديثة النصية حتى يستطيع أن يخرج مدرسة خاصة به بعد تراكم ونضج مقبول، ولكن الملتقى انحرف عن غايته ليتحول إلى إنتاج تصنيم الذات، وفعل التصنيم للآخر فأصبح ملتقى التصنيم وليس ملتقى النص، صنم هذا الملتقى نفسه عند من يظنون أنفسهم مؤسسي الملتقى وأغلقوا على أنفسهم الملتقى دون أن ينتجوا شيئاً ودون أن يدعوا الآخرين للتفاعل مع الملتقى في إطار إستراتجياته المهتمة بالنظريات الحديثة، ودون أن يكسبوه مزيداً من التأثير والوهج بتغيير التكتيكات وبقاء الإستراتجيات في اختيار الموضوعات المطروحة وفي اختيار الضيوف وفي تقويم النتاج.
والمؤسسون أدركتهم النشوة الصنمية ودخلت في أنوفهم نعرة الوصاية والكبرياء المريضة ليظنوا أنفسهم فوق الجميع وعياً وفهماً ونتاجاً وبدأوا يتصرفون كالأصنام ويعيشون كالأصنام ويكتبون كالأصنام ويلتقون كالأصنام، وتغلغلت هذه الصنمية حتى خرجت بالملتقى ليكون صنمياً في كل ما يطرح فلأجل ذلك ذبح النص وذبحت الأهداف التي وضع لأجلها الملتقى لأجل فكرة التصنيم ذاتها، وها هو في ملتقاه الأخير يطرح موضوعاً يطفح بالروح التصنيمية حول الرواد ويخرج لقضايا تتعلّق بتأريخ الأدب وتتعلّق بتقويم مرحلة أدبية ويضيع هويته ويصبح لا يختلف عن الملتقيات التي تنظّمها الأندية الأخرى، وبذا فقد تميزه وفقد قيمته وانطفأت جمرته.
إن الأصنام في الزمن الغابر قد ترتبط بالمنفعة ولا ترتبط بالقيمة ولذا سمي اللات من لت السويق فتغير الاسم بسبب من الحركة الاقتصادية المرتبطة.
والوضع ذاته حين ترى تصنيماً فكرياً أو أدبياً، إذ ينبغي عليك أن تبحث له عن اسماً له علاقة بانتفاع أو تنفيع أو منفوع أو متنفع وغيرها.. فلا بد من مكافآت تصرف للأدباء المؤسسين وسيغضبون أن نقصت ولا بد من تبجيل يليق بصنميتهم حتى يستمر ثباتها سواء قدموا بين يديهم كتابات أم قدموا خربشات أم قدموا مأكولات ومشروبات..
وعلى ذلك سوف يتغيّر ملتقى النص إلى ملتقى للتصنيم وإنتاج الصنمية المستمر، ولا غضاضة في إعادة الحديث عن الرواد الذي يعاد ويكرر ثم يعاد ويكرر الحديث عنهم وكأن الأدب والنقد ليس له إلا الحديث عن رواد يراد تصنيمهم دون وزن حقيقي لما قدموه من نصوص، وما هذا الحرص على تصنيم الرواد إلا لاجتماع ثلاثة تصنيمات في ملتقى تصنيمي واحد ( تصنيم الزمن على زمن معين، وتصنيم الريادة على رواد معنيين، وتصنيم التصنيمن من خلال مصنم واحد)، ولأجل ذلك سننتظر مزيداً من الموضوعات التي لا تخرج عن هذا الأفق الثابت، ولعل الأقداح ترمى ذات يوم بين آمر وناه ومتربص فيخرج الناهي دائما لتكون النهاية غير المتوقعة لملتقى كنا نفاخر به فأصبحنا نخفر صنميته ولا نبالي.
إن الإعداد لملتقى النص بالطريقة الصنمية ذاتها، وإهمال فتح الملتقى أو إبقاؤه موارباً (نصف مفتوح ونصف مغلق) ودعوة أناس ثابتين بحجة أنهم مؤسسون وإهمال ا لانطلاق من جودة الطرح الذي يتمحور حول جانب من المفترض أن يكون تخصص فيه الملتقى لهو انتكاسة كبيرة ولكنها متوقّعة في ظل الانتفاعية، والسلق السريع لما يقدّم في ملتقيات يجب أن تكون أكثر رصانة وأكثر قوة.
وعلى الرغم من أنني لا أؤيد نقل الملتقى إلى موضوع الريادة أو إلى موضوع يخرج به عن الاهتمام بالنظريات الحديثة، إلا أن الروح الصنمية في النادي تأبى إلا أن تنتج ذاتها أو تنتج صنميتها ولعلي أشير من باب الإشارة تأكيداً لوجهة نظري حول الملتقى الذي كنا نفاخر به أنني كتبت حول الريادة كتاباً أحسبه مختلفاً، وكان منسق الملتقى وهو الصديق الأستاذ الدكتور محمد ربيع الغامدي كما أظن قريباً من معرفة ما أكتب وما أطرح بحكم صداقة وإن كانت عابرة وبحكم انطلاقه من موضوعة الملتقى بيد أن قرب الصداقة لم يجعله يطلع على طرحي في هذا الموضوع كما أن تنسيقه للملتقى ولموضوعه المنطلق من مبادئ تصنيمية كما يبدو جعلته يلتفت للأباء المؤسسين للملتقى ثم يبحث عن كل ما يحمل الروح التصنيمية ليرفد بها الملتقى وقد فعل، لست آسى على ذلك، ولكن ما آسى عليه هو التضعضع الكبير لهذا الملتقى سنة بعد أخرى حتى أصبح لا يختلف كثيراً عن مجتمع (شريطية) معارض السيارات فئة قليلة تضحك على فئة كثيرة.
د. جمعان عبدالكريم - الباحة