(12- التكهُّنات والمعلومات الغالطة)
يستمر (الدكتور كمال الصليبي) في نثر التكهُّنات الجغرافيَّة في كتبه. ففي كتابه «حروب داود»(1) ذهبَ إلى القول: إن (بني عَمُّون) كان موطنهم في بيت رجل من (فَيْفاء) يُقال له (مُفَرِّح بن جبران)، في مكان اسمه (الحَبيل)، وهو من منازل قبيلة (أهل الدَّفرة)، في جبال فَيْفاء! تخيَّلوا أن بني عَمُّون كلّهم كانوا متحاشرين في بيت رجلٍ واحدٍ، لا لشيء إلَّا لأن اسم البيت (غَمَّان)! لذلك فالأمر قد اختلط على مفسِّري (التوراة) فعَدُّوا بني عَمُّون أهلَ (عَمَّان) عاصمة (الأردن).. والصليبي لا يرى ذلك، بل يرى أنهم كانوا يعيشون في بيت مُفَرِّح بن جبران المذكور. والدليل: (غ/ ع، م، ن)! وقد زعمَ أن ذلك البيت الصغير قرية.. وليس بقرية، بل هو بيت واحد.. وليس بقرية حتى بمفهوم أهل (فَيْفاء) للقرية، أي بيت كبير، بل هو مربوعة، أي بيت مربَّع.. وليس بيتًا قديمًا جدًّا.
إنه، كما ترى، لا يعرف المكان، ولا التاريخ. لم يره، ولا يدري أين يقع، ولم يسأل عنه. كلّ ما في الأمر أنه يبحث عن تشابه الحروف، فوقع على هذا الاسم، وظنَّ الاسم، كعادته، لقريةٍ كاملةٍ اسمها (غَمَّان)، أو (غُمَّان)، كما ضبطَ الكلمة.. وكان قد ذهب في كتابه نفسه «حروب داود»(2) وجهةً أخرى، هي أن (عمَّان) تقع جنوب (خميس مشيط) في داخل (عسير)!
وهكذا فإن الصليبي لا يبني فرضيَّاته على تأوُّلات شاطحة فحسب، بل يبنيها على معلومات غالطة أيضًا، لا أساس لها من الصحة، فيضطرب فيها هذا الاضطراب، الدالّ في ذاته على أننا أمام ضروب من التخمينات، لا أمام بحثٍ عِلْميٍّ يُركَن إليه. وليت شِعري، أيّ مفارقة هنا في عمل من يبحث عن أماكن توراتيَّة مجهولة (لبني إسرائيل) في أماكن أخرى هو أكثر بها جهلًا؟!
ثمّ تأمَّل قوله على صفحة واحدة من كتابه «التوراة جاءت من جزيرة العرب»(3)، كي تدرك مقدار ما تكلَّف من تمحُّل لإثبات نظريته، فوقع في العجائب. لقد قال، وهو يحاول تفسير نقش (الحَجَر الموآبي)- الذي اكتُشف في المرتفعات الأردنيَّة شرق (البحر الميت)، سنة 1868، والموجود في (متحف اللوفر، بباريس)- مناضلًا لجعل إشارات النقش الأردني تُحيل، لا إلى أماكن هناك في تلك البلاد، بل إلى أماكن هنا في غرب الجزيرة العربيَّة وجنوبها:
«إن موآب التوراتية قابلة للتعريف اليوم بالاسم بكونها قرية أم الياب في وادي أضم [كذا!].. وأم الياب هذه تقع عمليًّا إلى الجنوب من بلدة رابغ... والديبان... هي اليوم قرية في منطقة الطائف، غير بعيدة عن أُمّ الياب!... وعمري احتل... جميع أرض موآب ابتداءً... من قرية الهُدَبَة، شمال أم الياب، في مرتفعات الطائف المشرفة على وادي أضم!»
فـ«(الديبان) قرية في منطقة (الطائف)، غير بعيدة عن (أُمّ الياب) [=(موآب)، الواقعة جنوب (رابغ)]»! ولا ندري ما مقياس القُرب والبُعد لديه، ما دام ما في الطائف غير بعيد عمّا في رابغ؟!
ثمّ إن «(الهُدَبَة)، شمال أُمّ الياب [التي قال إنها في جنوب رابغ]، (في مرتفعات الطائف!)».
فماذا يفهم القارئ من هذه الخارطة العجيبة التي تقلب الشمال جنوبًا والجنوب شمالًا؟!
وكذا البحث والتحقيق، وكذا التدقيق العِلْمي، والتاريخ وإعادة كتابة التاريخ!
ومن هذا القبيل، وما لا أكثر هذا القبيل!، مزاعمه حول (حبرون).. وهي، كما عرفها الأوَّلون والآخرون: مدينة (إبراهيم) الخَليل، بالقُرْب من (بيت المَقْدِس). قال (الزبيدي)(4):
«وقد دخلتُها، وبها غارٌ يقال له: غارُ حَبْرُونَ، فيه قَبْرُ إبراهيمَ، وإسحاقَ، ويعقوبَ، عليهم السلامُ، وقد غلبَ على اسمها الخَلِيلُ، فلا تُعرفُ إلَّا به، وقد ذكرَ اللُّغتَين فيها ياقوتٌ وصاحبُ المَراصِد... ورُويَ عن كَعْبٍ [=الأحبار] أن البناءَ الذي بها من بناء سُليمانَ بن داوودَ، عليهما السلام.»
غير أن الصليبي سيزعم مرَّةً أن حبرون قرية (خربان)، في (المجاردة)، ومرَّةً أنها (النَّمِرَة) القريبة من الخربان، في منطقة (القُنفذة).. ولا ينسى التأكيد على أن القُنفذة تقع بجانب المجاردة، والمجاردة بجانب (رجال ألمع)، ورجال ألمع بجانب جبال فَيْفاء، فما بين تلك البقاع من المسافة سوى «فَرْكَة كَعْب»، يقطعها الراعي بغنمه، كما ستراه يزعم بعد قليل.
لقد ذهب إلى أن (إبراهيم) كان يعيش في (خربان - حبرون)، ثمَّ عاش فيها من بعده (يوسفُ) وأبوه.. وكان لا بُدَّ للصليبي أن يجد هناك مكانًا كان يرعى فيه إخوة يوسف، اسمه في التوراة: (شكيم).. ففَتَّش ثمَّ فَتَّش، فلم يجد، لكنه أخيرًا عثر على مكان اسمه (الكشمة) في رجال ألمع.. فقال: هو هو، لا غير! ولمَّا كان يوسف، حسب القِصَّة التوراتيَّة، قد ذهب يتفقَّد إخوته في مرعاهم البعيد في (شكيم - الكشمة) في منطقة رجال ألمع، فلم يعثر عليهم، تَبِعَهم إلى مكان اسمه: (دوثان).. فكان لا بُدَّ أيضًا من البحث عن دوثان هذه، واستخراجها وإنْ من تحت الأرض. قال: «هي اليوم الدَّثَنَة من قُرى جبل فَيفا»! وأقول: اسم المكان الصحيح: (الدَّثْنَة)، بسكون الثاء.. وثمَّة ثلاثة أماكن مختلفة المواضع في جبال فَيْفاء، بهذا الاسم، كما تقدَّم في الحلقات السابقة.. وليست ثمَّة قرية أصلًا، بالمعنى المألوف لكلمة قرية، باسم الدَّثْنَة، وإنما هو بيتٌ عائليّ.
ونُحِبّ أن نلفت نظر مَن يحمل تحليلات الصليبي على محمل الجِدّ إلى أن في جبال فَيْفاء أربعة أماكن باسم الكشمة، تمامًا كذلك الذي ذكر أنه مرعى إخوة يوسف في رجال ألمع. أحد تلك الأماكن يقع في جبل (آل المَشْنِيَة)، والثاني في جبل (آل أبي الحَكَم)، والثالث في جبل (آل ظُلمة)، والرابع في (الدَّفْرَة).. والأخيران يقعان قريبًا من المكان المسمَّى: الدَّثْنَة. فلِمَ لا تكون حبرون، إذن: مكانًا في فَيْفاء يسمَّى: (الخرابة)، وهو اسم بيت في جبل آل المَشْنِيَة، أو تكون مكانًا اسمه: (رحبان)، وهو اسم بيت في الجبل نفسه، ثم نقول - على طريقة الصليبي - إن يوسف قد ذهب من هناك للبحث عن إخوته في الكشمة، وهو ذِراع جبليّ(5) في جبل آل ظُلمة، ثمَّ وجدهم في أحد المكانين المسمَّيين الدَّثْنَة، وهما مكانان مجاوران للكشمة؟!
وإذا كنّا قد وجدنا ما يشبه اسم حبرون وشكيم ودوثان جميعًا في جبال فَيْفاء، فبوسعنا كذلك أن نجد للصليبي اسم (ممرا)، و(مكفلة)، في فَيْفاء أيضًا.. فنقول: إن ممرا - التي كانت موطن إبراهيم، وقال الصليبي إنها (النمرة)، شرق القُنفذة - يمكن أن نطرح عنها، على طريقته، عِدَّة احتمالات أقرب ممّا ذهب إليه: بأنها مثلًا مكان في فَيْفاء يقال له: (المرمر)، أو مكان آخر يسمى: (المرمَى)، أو ثالث اسمه: (المَرْوَة)، أو رابع اسمه: (مذرا).. إلخ. أمّا مغارة مكفلة - التي دَفن فيها إبراهيمُ امرأته، ثمَّ لمَّا مات هو نفسه، دُفن فيها، وجاءنا الصليبي زاعمًا أنها (مَقْفَلَة) في منطقة القُنفذة - فيمكن القول: إنها مكان في فَيْفاء يسمُّونه: (امْقَفَلِي - القَفَلِي).
وهكذا، فإذا كانت المسألة مسألة أسماء، فما أكثرها! ومنها كما ترى بدائل لا تُحصَى، وهي أشدّ تجاورًا، وأقرب شبهًا ومعقوليَّة من اختيارات الصليبي، المتباعدة مكانًا وصياغة! وهذا يدلّ على أن تحليلاته لا تدلّ على شيءٍ ذي بال، وأنه يمكن أن نقول مثل قوله عن أماكن أخرى متعدِّدة، أَنَّى ولَّينا وجوهنا.
** ** **
(1) (1991)، (عمّان: دار الشروق)،147.
(2) 137.
(3) (1997)، ترجمة: عفيف الرزّاز (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة)، 113.
(4) تاج العروس، (حبر).
(5) الذِّراع: ضِلع جبلي.
- الرياض
p.alfaify@gmail.com****http://khayma.com/faify