وقفت طويلاً خلف شخص لم يعر الشارع أو المركبة التي يقودها اهتماماً، ليتأخر في الانطلاق عندما أصبحت الإشارة خضراء، لأنه مشغول بجهازه اليدوي الذي كان يتلقى تواصلاً عليه أو يرسل منه إلى الآخرين.
وعندما دخلت إلى البنك كان أحد الموظفين يضع السماعات على أذنيه، وممسكاً الجهاز بيده، ولا أدري إن كان يتواصل أو يسمع الموسيقى.
وحين طلب منه زميله في خدمة العملاء أن يأتي إليه لإدخال تعريفه الرقمي (الذي ربما يكون ضرورياً أن يؤكد العملية أكثر من موظف في البنك) أتى إليه وهو بهذه الحالة، بيد واحدة حررها لإدخال التأكيد المطلوب دون أن يعير أمر التأكد من العملية اهتماماً، لأن تركيزه كان مع ما يسمع من الجهاز، ويده الأخرى كانت ممسكة بذلك الشريك في العمل. وحينما كنت عند موظف آخر، لإنجاز بعض الأمور، أتى ذلك الموظف، وقد خلع السماعات عن أذنيه، لكنه ممسك بجهازين في يده هذه المرة، ليؤكد العملية لهذا الموظف الذي ينجز طلبي. كنت قد أردت أن أتحادث معه بهذا الشأن، أو مع أحد مسؤولي البنك، لكن لمعرفتي أن الطامة عامة، آثرت أن أريح بالي بالحوقلة الداخلية والانصراف بعد الانتهاء من المعاملة البنكية.
وما أن وصلت إلى البوابة المؤدية إلى المنزل، حتى وجدت رجل الأمن الذي يراقب دخول السيارات قد ترك مهمته، مركزاً عينيه وحواسه على جهاز في يده. توقفت فترة طويلة نسبياً تحرياً لأن يرفع عينيه، ويعطي عمله بعضاً من اهتمامه، خاصة أنه كان بمفرده عند البوابة، لكن محاولتي ذهبت سدى. فحركت سيارتي مقتنعاً بأني أطلب شيئاً لم يعد ممكناً في ظل هذه البلوى، التي جعلت الناس موجودين بأبدانهم في مكان ما، لكن حواسهم وأذهانهم في مكان آخر سواه.
صحيح أنه منذ أن أصبح التواصل الإلكتروني ممكناً وبديلاً لبعض طرق الإنجاز التقليدية، خاصة مع إمكان إرسال كثير من الوثائق عبر البريد الإلكتروني، وإنجاز بعض المعاملات بواسطته، أو أون لاين كما يقولون، مثل عمل الحجوزات وشراء التذاكر وإصدار قسائم الدخول إلى الطائرة، وكذلك شراء بعض الحاجيات، وحجز طاولة في مطعم أحياناً، أو مقعد في الأوبرا لحفلة موسيقية أو مسرحية؛ صارت عمليات إنجاز هذه الأمور والترتيب لها أسهل، والإنسان أقدر على معرفة الخيارات المتاحة له، وتوفير الوقت والجهد للحصول عليها. لكن في المقابل تحولت كل هذه القضايا في بطون الأجهزة إلى أعباء تنتظر الإنجاز بين وقت وآخر، وإذا نسي المرء التعامل مع بعضها، وجد تراكماً منها في البريد الإلكتروني، أو في طلب من صديق أو زميل ينتظر الإجابة عنه، أو في معاملة إلكترونية ينتظرها بنك أو مؤسسة، وقد يترتب على نسيانها بعض الإجراءات والمشكلات، خلافاً للمعاملة الورقية التي كان يضعها المرء أمام عينيه، فيراها عندما يريد الخروج، وينجزها في حينه.
بالطبع تحتاج إلى وقت أطول لإنجازها، لكنها لا تمثل مع رفيقاتها عبئاً نفسياً يتراكم مع مرور الوقت، خاصة عند السفر، وتأجيل بعضها إلى حين العودة.
لماذا أصبح الإنسان مبعثراً بهذه الطريقة، من حيث يفترض أن يكون مخدوماً بالتكنولوجيا، ومختصراً وقت إنجاز العمل، ليزيد في وقت الراحة أو الاستمتاع بما يتوافر له من معطيات تقنية جديدة؟ لماذا أصبح بحاجة إلى تنظيف الإيميل ومراجعته، إن كان هناك ما يستدعي الرد أو الإنجاز؟ سبب ذلك كله أنه أصبح في خدمة هذه الأجهزة وتحت ضغط ما يصل منها بأصواته المختلفة، بدلاً من أن تكون هي في خدمته؛ بل أصبح كل متطفل يعاتب على عدم ردك السريع!
- الرياض