كنتُ ممن اتّخذْنَ موقفاً بمقاطعة الحديث في قضايا المرأة الاجتماعية والأدبية، -والمقاطعة موقف مختلف عن الحياد-؛ لأن المحامي الجيد عن القضية يواجه محاكمات غير نزيهة غالباً، وإن كانت نزيهة حضرت هيئة دفاع مخفقة وضعيفة تضر القضية، حتى في النظرية النسوية والنقد النسوي في أصقاع الأرض، فكان التسليم والرضا بحكمة تدبير الخالق جل جلاله برداً وسلاماً.
لكن ما اضطرني للحديث إلحاحُ المقارنة بين مواقف النقاد من حقيقة المرأة في الغزل العربي، على أن قضية (حقيقتها) موضع الكثير من البحوث العلمية البارزة والمحكّمة، والذي يعنيني هنا سيمياء الرأي النفسي الدفين عند الناقد، فالبحوث والمقالات (أشياء) خضعت لتحكيك العقل والشعور، فلنتركها جانباً ونبحث عن الرأي الدفين، ليس حول المرأة عموما، ولكن حول السؤال: ما رأي الناقد/ الشاعر في حقيقة وجود المرأة في الغزل (الجميل)؟.
الناقد/ الشاعر محمود شاكر رحمه الله وهو في رأيه للمرأة مع المتنبي «أمة وحده»، يجدها مؤنثاً حقيقيَّ التأنيث، يعيّنها ويسمّيها باسمها الثلاثي، مع أن الرأي السائد عن المرأة عند المتنبي منتزع من سطح البيت «»وللخود عندي ...»، شاكر لا يُعمل إلا أدواته المعرفية الخاصة، بعدسة دقيقة من فقه قراءة النصوص، فيجدها في الشجن العميق، ويكشف نصيفها في الصحاري والمعارك، حتى في البلاد التي ودعها المتنبي بلا سلام فأصابته الحمى..
هذا الرأي قد ينمّ عن رؤية نفسية دفينة عنده حول المرأة، رؤية لا تستبعد أن يكون لها أثرٌ عميق كهذا.
على الجانب الآخر يتراكم رأي دفين لنقاد/ شعراء، رأيٌ يقلّل هذا الاستحقاق الشعري، وسأسرد ثلاث مقولات دون عزو لأصحابها؛ لنركّز على المقول لا القائل.
العبارة الأولى، يقول ناقد/ شاعر عبارة جميلة وجهها لشاعر يكثر الغزل: «ما أهونَ الحياة إن كانت لهاثاً خلف امرأة»، وهذه عين الحقّ، ولكنها ليست رأس الحق ولا ذروة سنامه، فما أهون الحياة إذا كانت لهاثا خلف شخص، أياً كان، ولو كان لهاث والدين خلف أبنائهم، فالحياة بكل القيم والمبادئ والهموم والغايات الكبرى هينةٌ حقاً حين تختزل في أشخاص. هل كانت العبارة تنمّ عن رؤية دفينة تنتقص حياة الشعراء الذين ما قالوا إلا الغزل ؟ هل لا بدّ أن تكون المرأة في أغراض الشاعر مبتدأ نكرة لا مسوّغ لتقديمه؟ ثم إنَّ عدم معرفتنا ببقية أهدافهم لا يعني عدمها.
العبارة الثانية مرة أخرى لناقد/ شاعر، يشيد بحضور المرأة الكبير في قاموس الشعر العربي، وفي ذاكرة الشاعر، ولكن فلتة الرأي الدفين في قوله: «الشاعر العربيّ إذا وقف أمام المرأة صنع منها كائناً جمالياً يثير الدهشة» ، ولا نعرف ما هي طبيعة القطعة الخام قبل الصناعة؟ ماذا لو تغيّر الفعل : الشاعر العربي إذا وقف أمام المرأة منحته لساناً جمالياً يثير الدهشة؟ تبدو عبارة متطاولة وصادمة فعلا، هو الرأي النزاريّ الذي أوجدها في سطر وسيمحوها في آخر.
العبارة الثالثة وناقد/ شاعر أيضا، رأيه في شعر الغزل قديما، «كثير من شعر الغزل معرض لبراعة الشاعر اللغوية، يكون الشاعر مفتوناً باللغة لا بالمرأة، فهو تلاعب بالكلمات، المرأة فيه رمز لا أكثر»، إذن يمكن سحب هذه القاعدة على شعر الطبيعة، المشحون بالبيان والبديع، فالشاعر لا يرى جمال الطبيعة، ولا تنتشي حواسه لجمالها، المرأة أو الطبيعة أشبه بقطعة خشب أو ورقة رسم بيضاء، هي الريشة والألوان ، مجرد (أدوات) تساعده على إظهار إبداعه ولمساته الفنية اللغوية، هل يمكن أن تُنتَحل العاطفة إلى هذا الحدّ؟
إنصافاً، هذه ليست رؤيتهم وحدهم، بل تتوافق مع من ينفي حقيقة المقدمة الطللية، ويصفها بأنها مما جرت عليه عادات العرب، هكذا، المرأة جزء من (القالب)، وبقية المكعبات هي الراحلة، وآثار النار من رماد وأثافي، كلها عتبات، في الطريق إلى المتن والمهم.
هل هو اتّكاء على اعتراف الأعشى أن هريرةَ (اسمٌ) ليس إلا؟ وإن كانت اسماً فهل هذا دليلٌ كافٍ على أن الدلالة مزيفة كالاسم تماماً؟
السؤال الأمرّ : هل هي حقيقة نفسية أن الشعراء مآربهم في الغزل تدور حول ذاتهم، بطريقة أو بأخرى؟
والسؤال الأوجه: ما العدسة التي يمررها هؤلاء النقاد الكبار ليكتشفوا حقيقة المرأة واستحقاقها؟
ثم، السؤال الأصعب: كيف نقرأ قصائدهم -هم- الرائعة للمرأة؟ على أنها وقتٌ مُستقطَع طارئ؟ أو قطعٌ خزفية أخّاذة (من صناعتهم)؟ أم نفتّش عنها في الريشة البعيدة، والورق المغطى بالكامل بإبداع الشاعر اللغوي؟
يبدو أنه قدَرُ المرأة، أنها حتى على الشعر لا تخلو من الانتقاص.. استكثروا عليها القليل من ديوان الشعر العربي الضخم.. المثقل بالمديح، المشوّه بالهجاء، القبيح بأكثر الغزل الذي تأنف منه ذوات الكرامة، بقي لها : نزر الرثاء -على استحياء-، وقليل القليل من الغزل الجميل، أستكثروه عليها!؟
هذا تساؤل حول الرأي الدفين -ليس إلا-، وبعده فلتكتب البحوث والمقالات من الرأي المحكَّك العقلاني ما شاءت، ولا بأس.
نايفة العسيري - الرياض