في دراسة فنية نقدية موازنة تتناول الدكتورة هيفاء بنت رشيد الجهني من خلال رؤية فنية تأملية القواسم المشتركة بين شعري أبي القاسم الشابي وغازي القصيبي الإنسانية التي تتمثل في الدعوة إلى الخير والحب والتآلف والتصالح مع الذات ومع الآخرين وتنادي بكل خلق نبيل وصفة سامية. حيث الإنسانية في المجال الأدبي بحسب ما تذهب إليه الجهني: اتجاه عام شامل لا يختص بها مذهب أدبي معين دون سواه، فهي كالأدب وليدة العواطف الإنسانية والفعل الإنساني وأقرب المذاهب إليها أكثرها قربا من الإنسان وأشدها اعتناقا له واهتماما بقضاياه.
من هنا كانت النزعة الإنسانية التي ترمي إليها الدراسة هي تلك العواطف الراقية النبيلة التي تحدو بالإنسان إلى التحليق في سماء الحب والخير والعطاء والنماء. وتتناول دراسة الجهني ثلاثة محاور هي: الإنسانية في الأدب، الإنسانية في الشعر العربي على مر العصور، معالم حياة وبذور شاعرية. معتبرة أن في بكاء الطلل رموزا لمعاني إنسانية جميلة، ووصف الرحلة والراحلة يحمل في ثناياه قيما رائعة، فهذا زهير بن أبي سلمى داعي السلم والسلام وحاضن الصلح والوئام والحارث بن عوف اللذين دأبا يعملان على الإصلاح بين قبيلتي ذبيان وعبس وتحملا ديات القتلى الذين سقطوا جراء هذه الحرب الضروس الشهيرة بحرب «داحس والغبراء».
وهناك من الشعراء من جعل مشهد الصيد الذي هو أحد مشاهد وصف الرحلة معادلا موضوعيا لصراع الخير والشر في حياة البشر. وأما صفة الإباء وإنكار الضيم وتقديس كرامة النفس وعزتها والإصرار على التمتع بمزايا الحرية فيمكن تلمسها واضحة ناصعة كما تشير الدراسة في معلقة عمرو بن كلثوم وإن كانت هذه الصفات هي ألصق بطباع العربي في ذلك العهد وهي القاسم المشترك بين جميع شعرائه بمن فيهم تلك الفئة من الشعراء التي ظهرت واشتد عودها نتيجة معطيات وإفرازات ذلك المجتمع الذي عاشت فيه وسميت بفئة «الصعاليك» الذين إذا ما تصفح دارس شعر هؤلاء الصعاليك لمس فيه كثيرا من المعاني الإنسانية والأخلاق النبيلة والمبادئ الرائعة فها هو عروة بن الورد يسجل سجاياه وخصاله شعرا.
وهذا بشار بن برد يتناول واجبات الأخوة والصداقة بأسلوب عذب رقيق مفعم بالود. ويعد حاتم الطائي أكرم الكرماء متفردا في السخاء مع من يعرف ومن لا يعرف.
معالم حياة وبذور شاعرية:
وبعد مقدمة غنية بالكثير من الشواهد والاستدلالات على تجليات النزعة الإنسانية في الشعر العربي توقف الدراسة القارئ على أوجه ذلك المتعددة في شعر كلا الشاعرين المعنيين بالدراسة وهما: الشابي والقصيبي، لافتة في البدء إلى وجود اختلافات طفيفة بينهما، تتمثل في كون الأول لم تدم حياته أكثر من 26 ربيعا ولكن على قصرها كانت مليئة بالأحداث والمتغيرات والتطورات وموسومة بالمشاعر المتوهجة المتقلبة بين الفرح والحبور والألم والحزن والسخط والثورة والطموح والأمل واليأس والإحباط فيما امتدت حياة الثاني لسنوات غير قليلة وفي حين أوقف الأول حياته القصيرة على الشعر والأدب ولم ينخرط في العمل واقتات على ما تركه له والده تقلب الثاني بين عدد من المناصب الحكومية.
وتلتقط الدراسة أول خيوط التشابه بين الشاعرين، فكلاهما رحل سريعا عن مسقط رأسه كما يتفق الشابي مع القصيبي في السن نفسه التي تفتحت فيه قريحتهما الشعرية أما عن الظروف الحياتية التي مرا بها فكان لها عميق الأثر في تكوين رؤاهما الشعرية وكون الأول من الأصوات الشعرية المجددة والثاني تلميذا نجيبا في مدرسة التجديد في الشعر الحديث.
وقد تنقل القصيبي في حياته من الأحساء إلى البحرين ومنها إلى القاهرة ومن ثم إلى الولايات المتحدة الأميركية الأمر الذي ترك أثرا في شعره وأن الشابي يشترك معه في التنقل والترحال الذي كان له دور كبير في تكوين وتلوين ثقافته فهو قد ارتحل مع والده منذ عامه الأول إلى أماكن متعددة في القطر التونسي كما أن تنقلاته الاستشفائية بين المناظر الخلابة لا بد وأنه كان له دور في تشكيل شاعريته وترك بصمات واضحة على إبداعه.
وهذا لا شك صحيح غير أنني أجد من وجهة نظري بأن تنقلات القصيبي تشكل نقلات نوعية كبيرة في حياته لعبت دورا مهما في تشكيل شخصيته وتركت بالتالي أثرها الواضح على منجزه الإبداعي قياسا بتنقلات الشابي في ربوع بلاده التي يمكن أن نعتبرها قفزات صغيرة قياسا بتنقلات القصيبي كما أن تجربة حياة القصيبي الطويلة والثرية تختلف عن حياة الشابي القصيرة وإن كانت الشاعرية المتدفقة في المقام الأول ملكة.
وحول النزعة الإنسانية في شعره يقول جرجس ناصيف: «أيكون الشاعر إذن متوجها بشعره إلى الإنسانية عامة؟ قد يكون ذلك، وهذا هو المرجح فالنزعة الإنسانية واضحة عنده.
وقد تناولت الدراسة أبوابا وفصولا مثل: «أبعاد الشعر الإنساني عند الشاعرين»، «معان إنسانية في دائرة التمني»، «معان إنسانية في خضم التجارب»، و»منعطفات على أرض الواقع».
وخلصت عبر سوق الاستشهادات الشعرية إلى أن الشاعرين في نصوصهما الشعرية يتأرجحان بين الأمل والرجاء واليأس والإحباط في تحقيق أمنيتيهما الملحة حول سيادة العدل والشجاعة باعتبارها مطلبا لاستقرار الحياة الإنسانية.
شمس علي - الدمام