انتهينا في الجزء السابق إلى أن الفلسفة المثالية في أساسها تأثرتْ في بعض الأوقات بالديانة المسيحية وأثرت فيها أيضًا في نظر الكثيرين، ولذلك يسمّي البعض الفلسفة المثالية في مراحلها الأولى (الفلس0فة الإلهية) لقوة علاقتها بعدد من الأديان وانسجامها مع أفكارٍ دينية، وهذا واضح عند روادها الأوائل كأفلاطون مثلا وعالمه المعروف بعالم المثل، الذي شرحناه مرارًا وتكرارًا في مقالات سابقة.
ونواصل الحديث اليوم، حيث انقسم الاتجاه المثالي في الفلسفة -بعد ذلك التأثر والتأثير المتبادل مع المسيحية وغيرها من الأديان كاليهودية- إلى عدد من الأقسام أو المدارس، وسنحاول في هذا الجزء المرور على أهمها، واستخراج ما أراه مهمًا من القواسم المشتركة بينها، قبل أن نختم بمزيد من تسليط الضوء على أهم الأهداف التربوية العامة للفلسفة المثالية.
فأمّا الأقسام فكثرتْ وتشعبتْ، ومن أهمها باختصار (المثالية الذاتية) أو اللامادية، وهي فلسفة برزت في العصور الحديثة في أواخر القرن السابع عشر تقريبًا على يد الأسقف الايرلندي جورج بار كلي، الذي خاض صراعًا كبيرًا ضد المادية محتجًا باستحالة إدراك الأشياء المادية إدراكا حقيقيًا واضحًا، وكان وقوفه في وجه الماديّة مرتكزًا على دافع ديني فيما ظهر لي، وهو –بكل بساطة- أن المادية تؤثر على الإيمان وتتعرض له. فالجوهر المادي ليس إلا الوهم عند باركلي، وزبدة توجهه -في فهمي- أن الأشياء لا توجد إلا من خلال إدراكنا نحن لها، ولذلك سُمّي مذهبه بالمذهب اللامادي.
كما نجد (المثالية النقدية)، ورائدها عمانوئيل كانط، الذي تناولناه بالتفصيل في سلسلة مقالات سابقة، والذي أرجع كلَّ شيء للإيمان والضمير، وقد ظهر لنا أن مثاليته النقدية تميّزتْ بوضع حدودٍ للعقل الإنساني لا يتعداها إلا من خلال التجربة الممكنة المحدودة، كما أن فلسفته وضعتْ شروطاً عقلية للتجربة وتحققها، حيث اختلف «كانط» مع كثير من الفلاسفة، فهو يرى أن للعقل جانبًا باطناً موجودًا في الماديّة الحسيّة، فالعالم الحسّي عنده لا يستطيع الوقوف عليها منفردًا، بل هو بحاجة مستمرة للعقل والمعرفة العقلية. وقد تكون خلاصة اطلاعي على كثير من كتابات «كانط» هي أنه حاول أن يوضح خطأ النزعة العقلية المجرّدة في غالب أحوالها من ناحية، وكذلك خطأ النزعة التجريبية المجردة من ناحية ثانية، فالتصوّرات العقلية دون انطباعات أو إدراكات حسية تكون جوفاء فارغة غالبًا، والانطباعات أو الإدراكات الحسية أيضًا –في المقابل- بغير التصورات العقلية تكون عمياء ناقصة.
لقد اتفق «كانط» في بعض النقاط مع فلاسفة المدرسة الواقعية -التي سنسهب حولها في الأجزاء القادمة- وأهم ما في ذلك الاتفاق قبوله لفكرة الواقعيين أو التجريبيين حول أن تجربة الحواس هي أساس مهم للمعرفة بشكل عام؛ ولكنه –في المقابل- مال إلى توجه الفلاسفة المثاليين أكثر، حيث أضاف أن العقل وحده في النهاية، هو الذي يملك الشروط اللازمة لتحليل كيفية إدراكنا للعالم.. وأضاف أيضًا أن هناك معرفة أخرى موجودة في العقل المحض المستقل تمامًا عن كل أنواع التجربة والحواس، فالإنسان -عنده- يحصل أحيانًا على بعض المعرفة بالعقل فقط، دون أيّ اعتماد على ما تأتي به الحواس من العالم المدرك بها، ومن هنا يظهر جليًا أن كانط، خالف الكثيرين من فلاسفة الواقعية، الذين كانوا يرون أن المعرفة كلها تُستمد من الحواس فقط، فقد كان يعتقد أن طبيعة تكوين العقل البشري، تسمح له –أحيانًا- بالحصول على شيء من المعرفة، بلا أيّة استعانة بأيّة حاسة من حواس صاحبه.
وقد نجح «كانط» –في رأي الكثيرين وأنا منهم- في الوقوف بمكان وسط بين العقلانيين الذين يرى أنهم بالغوا في دور العقل، وبين التجريبيين الذين يرى أنهم بالغوا أيضًا في الوقوف على التجارب الحسيّة.
ونجد أيضا (المثالية الموضوعية)، التي نشأتْ من فيلسوف ألمانيا الكبير هيجل، الذي يرى الكثيرون أن فلسفته وُلدتْ أصلا كردة فعل ضد المثالية الذاتية، وأهم ما خرجتُ به من فلسفة هيجل - رغم قلة معلوماتي عنها وضعف اطلاعي عليها- أستطيع أن أجمله في نقطتين هما: 1- أنها فلسفة تعتقد بوجود عقل مطلق في الطبيعة، حيث أن المُطلق هو الوجود الواقعي كله، فلا يوجد حقيقة خارج العقل الإنساني أو فوقه، فهناك - في اعتقاد هيجل الجازم- حقائق (خارجة عن إطار التجارب البشرية)، فجميع أعمال الإنسان ليست في النهاية إلا نتائج لنشاطات العقل المطلق. 2- أنها فلسفة تقول إن الأفكار تتطور تطورًا جدليًا، وزبدة شرح هذه المسألة المهمة عند هيجل، هي أن كلَّ فكرة تعقبها فكرة ثانية جديدة تقوم فوق تلك الفكرة القديمة، ثم تأتي فكرة ثالثة أجدّ، فتتصارع مع الفكرة الثانية السابقة لها، إلى أن ينتهي هذا الصراع بظهور فكرة أخرى أجدّ وأجدّ، تأخذ أفضل ما في كل فكرة من الفكرتين السابقتين لها، وتدمجه في كيانها الجديد.
مع ضرورة الانتباه إلى وجود أقسام أخرى للفلسفة المثالية وفلاسفة كثيرون ينتمون إلى مدارسها؛ ولكننا ركزنا على الأبرز في هذه السلسلة التبسيطية.. وقد ظهر لنا من تتبع فلاسفة المثالية وتفرّعات هذه الفلسفة ومدارسها وجود قواسم مشتركة تجمعهم جميعًا كأساسيات يشتركون فيها، ومن أبرزها مثلا الاهتمام الكبير بالعقل والروح كما أسلفنا، ووصفهما بأنهما جوهر العالم وأهم ما في الإنسان، فبالعقل يدرك الإنسان الأشياء، فالعقل دائمًا مقدّم عندهم على الإدراكات الحسية والحواس التي تأتي في الدرجة الثانية.
ومن أساسيات الفلسفة المثالية أيضًا، اعتقادهم أن المعرفة العقلية مستقلة عن الخبرة الحسيّة، وأن جوهر الإنسان عقله، أما حوّاسه فمشكوك فيها وفي نتائجها ودقتها، فالإدراك الإنساني الصحيح الأقوى عندهم هو إدراك العقل المستقل عن التجارب الحسية؛ ولذلك قرروا أن المعرفة كلّما ارتبطتْ بالعقل وتجرّدتْ من الإدراكات الحسية غير الدقيقة وابتعدتْ عنها، سمتْ وارتفعتْ وكانت أكثر دقة ويقينية وثباتا.
ومن أساسياتها أيضا بصياغة أخرى غير المذكورة في الجزء السابق، حول قولهم: «إن الحقيقة العقلية مطلقة وثابتة» فالمعنى أن العالم المادي عند الفلاسفة المثاليين ليس واقعًا مطلقاً، فكل الظواهر المادية المحيطة بنا ليست إلا مجرد ظل لما يدركه عقل الإنسان المفكر، والحقائق العقلية هي الأزلية غير القابلة للتغيير؛ فالعقل مرتبط بالثابتات والأزليات والمطلقات دائمًا، بعكس الحواس المضطربة ونتائجها النسبية المشوشة.
أما من الناحية التعليمية، فالفلسفة المثالية منهجها منهج تقليدي تلقيني يرتبط بالأساليب القديمة المعروفة في كثير من المجتمعات، حيث تقوم المدرسة بحشو عقل الطالب بكم كبير من المعلومات، وكأنه وعاء يتم ملؤه بالطعام والشراب. وهذا وغيره من مناهجهم وأساليبهم وتوجهاتهم ناتج عن اتفاق المثاليين تقريبًا على قناعتهم الكبرى، وهي أن الأفكار سابقة على المحسوسات؛ لأن وجود الأشياء مرتبط بالقوى التي تدركها، فوجود العالم الخارجي مستحيل بعدم وجودها.
وهذا المنهج التعليمي في الحقيقة يركز على الاستنباط والعلوم الاستنباطية التي تمرّن العقل على الحفظ والتلقي، وهذا مهم بلا شك، ولكني أراه يهمل -إلى حد كبير- بعض المهارات والنشاطات الهامة، فالفلسفة المثالية تضع حدًا فاصلا إن صح التعبير، بين العلوم الإنسانية النظرية العقلية التي تهتم بالعقل وتنميته، وبين العلوم التجريبية المادية التي تعتمد على التجارب العملية والخبرات التطبيقية الواقعية.
ونستطيع أن نؤكد أيضا على أن (الفلسفة المثالية) ترتبط بالماضي كثيرًا على حساب الحاضر والمستقبل، وتصرف أوقاتاً طويلة في تلقين الطلاب ما جاء في كثير من كتب التراث واللغات القديمة وما شابه، ولكنها مقصّرة كما ذكرنا في الواقع المادي المعاش والتطبيقات المهارية والمناشط ذات الصبغة الحرفية والمواهب والهوايات وما شابه، وفي ذلك تجاهل لميول الطالب.. فالمثاليون دائمًا يحسنون تنظيم المقررات الدراسية تنظيماً منطقياً ينحدر من الكليات إلى الجزئيات ومن البسيطات إلى المركبات ثم الأشد وعورة تعقيداً، وهذا مهم؛ ولكنهم بحاجة إلى مزيد من الاهتمام بقدرات الأفراد الخاصة ومواهبهم وميولاتهم ورغباتهم المختلفة.
ونزيد من التفصيل في التربية، فالفلسفة المثالية تهدف تربويًا إلى الارتقاء بالعقل الإنساني قبل كل شيء، ويعتقد الكثير من فلاسفتها أن الخير هو الأصل، وأن الشر شيء عارض شاذ في الحياة، ولذلك يركز كثير منهم على أن الطبيعة الخيّرة هي الأصل ويعملون على كشفها وتسليط الضوء عليها وعلى جمالياتها في الإنسان الخيّر، ومن هنا نصل إلى أن التربية المثالية تهدف إلى تنمية السمو النفسي قبل أي شيء آخر، فهي تقدّم وتفضّل التربية المعنوية الروحية على غيرها.
ومن أبرز أهدافها التربوية أيضًا، أنها بنشر أسلوب التلقين والتحفيظ جعلتْ المعلّمَ هو الأصل والأساس، أما الطالب فيجب عليه التزام الأدب والصمت والاستماع فقط، وحفظ كل ما يطلبه منه المعلم.
ومن أهدافها التربوية تنمية العقل وتدريبه، وهم ينطلقون من أن التربية تهدف لرفع الإنسان إلى أعلى درجات الكمال والعلو، والعقل هو وسيلة الوصول إلى الحقائق، وبالتالي فهو الأهم في العملية التربوية، ومن هنا جاء اهتمام المثاليين بالمقررات التي تحقق ذلك كالرياضيات والمنطق، كما اهتموا كثيرا في بعض الأزمنة والأماكن بالدين لارتباطه بتقويم الروح والأخلاق.
ومن أهدافها التربوية أيضًا أنها اهتمّتْ بالمبادئ والأخلاق والآداب والروحانيات والقيم، أكثر من اهتمامها بالعلوم التجريبية والنواحي العملية المختلفة، فهدفها دائمًا توضيح السبل والوسائل التي تجعل الإنسان قادراً على التفريق بين الخير والشر، كما عمل المثاليون بقوة على زرع المحبة والاحترام المتبادل بين الطلاب مع بعضهم من جهة، وبينهم وبين مع لميهم من جهة أخرى.
ومن أهدافها التربوية أنها تهتم باكتشاف (نوابغ العقول من الطلاب)، فتعمل على إعداد جيل من المتميزين عقليًا وفكريًا، ليكونوا فلاسفة ومفكرين وحكماء، ولذلك ترفض التربية المثالية المبالغة في ربط التعليم بمطالب المجتمع واحتياجاته وترى أنها مسؤولية المؤسسات المهنية، أما هي فمسؤوليتها تنمية العقول والرقي بالملكات العقلية أولا، ومن هنا جاء اهتمام المثالية بالطرق الاستنباطية والحوارية كالخطابة والإلقاء والنقاشات والمجادلات؛ بالإضافة إلى التركيز على الحفظ خاصة في تدريس صغار الناشئة. كما أنها تعمل دائمًا على نقل التراث الثقافي المتوارث، وقد انتقدها الكثيرون هنا باعتبارها فلسفة متصلبة تقاوم التغيير والتجديد.
وائل القاسم - الرياض