انطلقت ببادرة تعليمية تقانية فريدة في العالم العربي ألعاب إلكترونية عربية تتضمن مئتي درسٍ في العلوم والرياضيات، وعُرفت باسم #عالم_أريب في موقع تويتر. ورأيتُ أن أكتب عن هذه الخطوة وذلك بالنظر إلى كل من مزايا الأداة نفسها وعيوبها في العموم في أدبيات الأبحاث، على الرغم من أنني لن أقف مع عالم أريب نفسه من حيث طرائق تقديم المعلومات والمعارف الرياضية والعلمية، وأساليب دمجها الحواري أو اللُّعبي أو التنافسي إلخ نظرًا لِجِدَة طرحها في السوق.
ومازالت قضية تعليم الأطفال بالألعاب الإلكترونية تُشغل التربويين في كل من الولايات الأمريكية المتحدة والمملكة المتحدة، واندفاع الأولى إلى الاستغراق فيها وإنتاجها، والثانية إلى الوقوف على نقدها وتقويمها، ونتائج أثر الألعاب التعليمية الرقمية تعود إلى طبيعة انشغال هذين الاندفاعين تقريبا في المجمل. وجدير التنويه بأن وقوف هذه المقالة على أثر هذا النوع من الألعاب سيكون على محور الإدراك cognition، وليس على محور السلوك behaviour، لأن الأخير لا يحتاج إلى تفصيل، كون النظرية السلوكية الكبرى (الأثر والمحيط والاستجابة) شبه محسومة، ولأنها الفاعلة بشكل أكبر، فالاستجابة السلوكية عند الأطفال تنسجم مع المثير في الألعاب والمشاهد الرقمية الخيالية؛ فما سيتضمن عنفا سيُجيبُ له سلوكُ الطفل بالعنف، وما يتضمن حبًا سيكون دافعا لغرس الحب، وفي كليهما ينقل الطفل ويحاكي-غالباً- الأدوات المصاحبة لهذا العنف أو لذلك الحب.
وقبل الوقوف على واقع انشغال بعض المؤسسات الأمريكية والبريطانية، لا أنسى ذكر عِلل الأفلام الكرتونية والألعاب الكرتونية الورقية، حيث أثبتت الدراسات التربوية والتعليمية في التسعينيات من القرن العشرين مشكلات تلك الأفلام (غير السلوكية)، وكيف أن الصور المتحركة تعيق كثيرًا في تمريس المقدرة البيولوجية الدماغية لدى الأطفال على استيعاب ما وراء هذه الصور من جمل وعبارات ومقاصد وروابط لغوية وجودية؛ وعلى الأخص أولئك الأطفال الذين لم يبلغوا سن السابعة، أما من بين السابعة والثانية عشرة فإن قضية الاستيعاب تزيد قليلا ولا تفيد كثيرًا بالعامل نفسه المرتبط بتشبع خلايا العين وتركيز البصر على التشتت اللوني والحركي، وعلى المقاطع الفجائية السريعة وكثرة الانتقالات والمؤثرات فيها. وكذلك الحال في سياق اكتساب اللغة الثانية عند الأطفال، فعندما يكتسب لغة ما، ويقضي كل طفولته في النظر إلى الرسوم الكرتونية المتحركة باللغة الثانية فإن ذلك لا يجدي مراحل تطوره الاكتسابي نفعا، حتى على مستوى الوحدات المعجمية المعدودة على أصابع اليد الواحدة.
ومن الدراسات التتابعية/المتأخرة التي برهنت على مشكلة الرسوم الكرتونية ومشكلة الألعاب التعليمية في عدم تحفيز العملية الإدراكية cognitive process في دماغ الأطفال ما ذكره سيموك Simcock (2003) وكريستاكيس Kristakis (2011) وليلّارد Lillard (2011) في مجلة طب الأطفال Journal of Pediatrics من آثار الخطوِ السريع self-paced في ضياع التركيز وتشتته، وكذلك تحليل جليبي Gliebe (2011) لمجموعة من الأطفال المدمنين على برنامج سبونجبوب SpongeBob، وأثره على عرقلة الاستيعاب الطبيعي في عقل الطفل، ومقدار الأثر الذي يحدثه ذلك على الأطفال قبل دخول المدرسة بمتوسط مشاهدة لا يزيد عن الساعتين يومياً (زيميرمان Zimmerman 2009).
وفي مقابل ما ذكرته هذه الدراسات في مجلة طب الأطفال من سلبيات، نجد في المقابل الكثير من الإيجابيات من جهة التربويين لواقع توظيف فنون الرسومات المتحركة الرقمية بمضمون تربوي تعليمي، وهذا دليل على أن المختصين في طب الأطفال والصحة يميلون إلى التحليل الإدراكي، على خلاف التربويين الذين يركزون على الجانب السلوكي. ومن الإيجابيات من جهة التربويين ما ذكره جريفيثس في مجلة التعليم والصحة Education and Health (2002) من أن هناك فرقا بين مشاركة الطفل لمحتويات ألعاب الفديو وبين المشاهدة وحدها للرسومات المتحركة، ويبقى الأول والثاني رهن المحتوى ورهن صيغ العرض، فبما أن ألعاب الفيديو قد تُعلّم الطفل على الاعتماد على الذات، وعلى تحقيق ما يريده، وعلى ممارسة إصدار حكمه وانتقائه واختياراته، إلا أن الإثارة تبقى نوعا ما مشتتة. ولكن جريفثس قد حصر فوائد الألعاب على أعمال الأطفال دون استثناءات، وعلى غيرهم كذلك من المعوقين ممن يعانون من قصور في نمو العقل على أمرين: المتعة والانخراط وما تُنتجهما من تحفيز كبير على الإبداع.
ونقف هنا على ما تذكره إلينا ماليخينا Elena alykhina (2014) في مجلة ساينتيفيك أميركيا من حيث قولها: إن بعض الباحثين مازالوا في شك من الأثر الإيجابي لألعاب الفيديو التعليمية، فيذكر لنا سكوت أوسترويل Scot Osterweil من معهد ماساتشوستس للتقنية كيف أن هذا النوع من الألعاب قد يعزز من التعلم، ولكنه سيُعزز بشكل فعلي عند دمجه في العملية التعليمية التوجيهية والتعاونية المحوطة بالتعليمات من المعلم وأدواته التقيمية، ويذكر أوسترويل بأن هناك العديد من المدراس التي جُهّزت لهذا الغرض، وما زال المنهج التعليمي فيها غير واضح من حيث التقييم التتبعي والاختبار المعياري لتطور الطلاب، وما زال لا يُفضي إلى تأسيس مناهج تعليمية جديدة ومتنوعة وتدريجية من حيث المستويات من الأسهل إلى الأصعب. ويضيف أيضا قائلا: بدأت ردود الأفعال المستمرة حول الاستعمال المبالغ فيه لمفاهيم الاختبارات المعيارية تشجع ومضات الإبداع عند الناشئة وطلاب المراحل التعليمية الأولى دون الاهتمام بقيود التقييم التقليدي المألوف في المدارس. وبعض من الباحثين في المقابل يستفهمون عما إذا كان الاعتماد الكلي على الألعاب الرقمية التعليمية سيفيد المتعلم الصغير في الأصل أم لا، وذلك بسبب عدم وجود أدلة بحثية تبرهن دورها في رفع المستوى الإدراكي عند الأطفال (وهو المحور الأساس لنظم التعلم المبكر).
وفي دراسة جامعة كامبريدج في عام 2013؛ بدا أن التطور الحركي والمهاري لدى الأطفال عن طريق ألعاب الفديو يُصاحبه مستويات متدنية من الإدراك العقلي المسؤول عن بقاء المعلومات بشكل مؤقت، والإدراك هنا يعد مهما في النظم التعليمية النظامية المتراكمة عبر سنوات التعلم، وقد قامت هذه الدراسة على تقديم أكثر من خمس وعشرين جلسة لأطفال تراوحت أعمارهم بين سبعة وتسعة، وعلى إعطائهم مجموعة من ألعاب الفيديو ذات المستويات الصعبة، وأخرى ذات مستويات سهلة، من أجل كشف مدى الصعوبة من السهولة في تطور أداء قياسات الذاكرة الفاعلة working memory أو الوعي العقلي في الرياضيات والقراءة والكتابة وتتبع التعليمات في الصف، واستنتجت الدراسة بأن هذه الألعاب لم يكن لها أي دور إلا في نوعية الألعاب فقط، ولا تساعد على بناء الإدراك العقلي بشكل عام، وليست فاعلة في تطوير مهارات الرياضيات والقراءة والكتابة على غير ما تتضمنه تلك الألعاب وما يشابهها، وليست فاعلة على ما هو مأمول في التعليم التقليدي من تحفيز النظام المعرفي cognitive system في الدماغ.
وعلى خلاف ذلك، وعودة مع إيجابيات هذا النوع من الألعاب، نتذكر ما قالته باحثة الدكتوراه بليكي Blakey في جامعة شيفيلد من أن المهارة الإدراكية جوهرية في التعلم المدرسي، ومن أن الاعتماد على ألعاب الفيديو التعليمية سيتحدى الذاكرة بشكل يجعلها مبدعة، وسيقود ذلك - بشكل نظري على حد قولها - إلى تطور المهارات التربوية والتعليمية لدى طلاب الناشئة، ولكن: يبقى ذلك كله مجرد نظريات، ويحتاج إلى مزيد من الأبحاث من أجل برهنته بشكل أوسع.
وفي كل السيناريو المذكور آنفا؛ نلحظ أن مسألة طغيان الإيجابية على السلبية أو العكس لتلك الألعاب التعليمية الرقمية ليس مرجحًا، ولم يُرجّح بعد، ناهيك عن قضايا المحتوى الدقيقة، وكذلك مسائل التشتت الذهني في نوعية الألعاب أو المشاهد، والقضية مازالت في درجات الافتراض، ولكنها-دون أدنى شك-بديل مفيد للطلاب الذي يملّون من مناهج التعليم التقليدية.
وعودًا إلى البداية، ومع مشروع (عالم أريب)، ستبقى المسألة مرهونة بذلك التأرجح بين السلب والإيجاب، وبين السلوك والإدراك، وبين المتعة والذاكرة، وبين التشتت (الاستيعابي) والثبات (التطوري)، وبين التنظير (الذي لم يبرهن نوعيات الألعاب وطرائق التصميم وعناصر المحتوى ونتائج المخرجات) والواقع (المستقبلي).
وقد طغى على إعلان مشروع عالم أريب التسويق الاستهلاكي من جهة، والتعميم في الحكم على المنتج، وكان من الأولى-كونه مشروعا تعليميا-أن يقف على المزايا والعيوب، وأن يناشد التطوير والتقييم في المستقبل بالتنسيق مع الشركاء المهتمين بالتعليم؛ لأن التعليم ليست مواد استهلاكية، بل مواد ديمومية مستمرة وباقية ولا تستغني عن التقويم والتقييم والتطوير لتحقيق نتائج إيجابية بعيدة المدى. وقد أكون صائبا أو مخطئا إن قلتُ-بعدما شاهدت التقرير ووقفت على مقطع قصير من ألعاب مشروع عالم ويب-إن أدوات الموجودات والمحسوسات الرقمية أكثر بكثير من المتحدثين الرقميين الذين يقدمون المعرفة العلمية والرياضية، وهذا أول خطأ قد يُسبب عدم تحقيق الأدنى من تعلم المحتوى نفسه فضلاً عن المستوى الأعلى من التحفيز الإدراكي/ المعرفي/ القياسي، ثم إن غياب اللغة مشكل؛ فالعلوم والرياضيات بلا مهارات لغوية أشبه بمن يُدرّب روبورتات قائمة على المحاكاة. أما السلبية الأخيرة من خلال المقطع الإعلاني الصغير فهي الاستغراق في الإلكترون الرقمي، وهنا تكمن الحاجة إلى التطوير التقني للمشروع من أجل أن يقارب الصور الرقمية إلى أشكال الموجودات والأجسام والمواد والشخصيات المحاكية للطبيعة.
وحُقّ لهذا المشروع جزائل الشكر ومنابع الأمل، ويكفي أنه المشروع الأول من نوعه عربيًا، وكل ما يُتمنى له هو ألا يدخل إلى عالم الربحية والتسويق على حساب التقويم والتقييم والتطوير، وعلى حساب قطع النظر والتتبع للأبحاث العالمية في هذا المجال؛ فعلى الرغم من بدء الألعاب الرقمية التعليمية منذ مطلع القرن الحادي والعشرين في أمريكا وبريطانيا، إلا أنها لم تُبرهِن شيئاً حتى الآن، ولم تُثبت الفعالية حتى الآن، ولم تقدم طرحاً تقويمياً لغرض التطوير لما لديهم من ألعاب حتى الآن أيضاً.
سلطان المجيول - الرياض