يخطر لي أحيانًا أن أتخيل شكل الحياة دون ذاكرة، كيف سيكون لونها؟ بيضاء كما يرى سعد الله ونوس لتكون البداية ممكنة؟ من قرر أن البياض هو لون الفراغ؟ الأسود أيضًا يمكنه أن يكون كذلك باقتدار، والأحمر والأصفر وغيرها من الألوان التي تلزم سطحًا واحدًا دون تعرجات أو منعطفات!
حسنٌ، لنترك حديث الألوان جانبًا ولنعد لموضوع الذاكرة «البيضاء» أو الفارغة، في رواية «قبل أن أخلد للنوم» لـ س.ج.واتسون (ترجمة أفنان سعد الدين صدرت عن الدار العربية للعلوم عام 2012) تعاني البطلة «كريستين» من فقدان الذاكرة أو بالأحرى من استمرار ذاكرتها ليوم واحد فقط، الأمر الذي جعل طبيبها يسألها كتابة يومياتها كنوعٍ من التوثيق وأن تعيد قراءتها يوميًا ليكون لديها مخزونٌ تستند عليه طيلة اليوم الذي تصبح فيه ذاكرتها «ملونة»!
هذا الخواء القسري الذي حاصر كريستين جعل حياتها تبدو مثل كلمات متقاطعة، حتى لو ملأت فراغات المربعات ستتشكل لديها كلمات مفيدة، لكن مجموع الكلمات لا يمكن أن يمنحها جملة! يبدو الأمر غاية في الصعوبة، أعني أن يجد المرء نفسه كل صباح مثل ورقة فارغة – بغض النظر عن لونها- بلا تاريخ أو هوية، ويحتاج من يخبره بمن يكون حتى إن كان يعرف اسمه، غير أنه يفتقر إلى الماضي، أرضيته التي يحتاج أن يثبّت قدميه عليها، وهو ما يمنح الآخرين فرصة لتشكيل تاريخه كما يريدون دون أن يتمكن من التدخل أو الاعتراض، لأنه لا يملك خيارًا آخر سوى تصديق ما يقال له!
هنالك شعوب بعقول سليمة وذواكر ممتلئة- بالمعنى الحرفي والمجازي للكلمة وعلى الصعيدين الإيجابي والسلبي أيضًا والأخير أكثر ربما- لكنها تنزع إلى الاستسلام وتسلّم تاريخها لفرد (المستبد) يصوغه كيفما يشاء، ويملأ أرجاء البلاد بصوره وأقواله، بنوعٍ من التذكير القهري بأنه هناك وهنا وفي كل مكان، يفصّل التاريخ على مقاساته وأبعاده هو وحده هذا إن لم يمحُ التاريخ ويبدأه بيوم توليه السلطة الذي يجبّ ما قبله، نوع من غطرسة الوضيع على حد تعبير محمود درويش البليغ.
إن كان الأمر صعبًا فيما يتعلق بالشعوب، فلا أظنه يقل صعوبة عن ذلك بالنسبة لنا جميعًا كأفراد نعيش تواريخنا ونكتبها بطريقة خفية. نحرص على التقاط الصور أو كتابة اليوميات أو الاحتفاظ بقصاصات من هنا وهناك لنا وللأصدقاء الذين ينفضّون سريعًا بعد حفلة الشاي الأخيرة التي لاكوا فيها حفنة من ذكريات، لجمعٍ لم يبق منهم سوى آثار أقدامٍ حملتها الريح وغادرت، نتشبث بها كما نتشبث بدوارة الريح عند العاصفة، ونقاوم لأننا نوقن أن القفز بالاتجاه المعاكس للذاكرة ليس لعبة حاصلها صفر!
لن تكون الذاكرة بيضاء بأي شكل – مع الاعتذار لونوس- أظنها ستظل موجعةً مهما كان اللون الذي اتخذته «هوية» لها، وستبقى مثل الأرض التي نقرت الطيور حَـبّها، جرداء مجوفة وليس فيها إلا «آثار ثقوب»!
** ** **
«كل المياه لها ذاكرة جيدة
لأنها تحاول دومًا العودة من حيث أتت»
توني موريسون
بثينة الإبراهيم - الكويت