(34- شهادة العاديّات المِصْريَّة- 4)
نتوقف في هذا المقال عند ظاهرة الأمراض التي ألمـَّت بالفراعنة؛ فقد رأينا في المقالات السابقة أن الفرعون الأوّل الذي قدَّرنا أن موسى عاش صِباه في عهده (تحوت موسى الثاني)، اعتلّ فور اعتلائه العرش، ومات في الثلاثين من العمر، ومومياؤه تدلّ على أنه كان مصابًا بمرض جلدي. وكذلك ابنه (تحوت موسى الثالث)، وحفيده (أمنحُتِب الثاني)، الذي قدَّرنا أنه فرعون الخروج. ثمَّ إن ابن هذا الأخير، (تحوت موسى الرابع)، الذي تولَّى بعد أبيه، وعقِب خروج بني إسرائيل المفترض، لم يكن وريث العرش، بل وصل إليه بحيلة رؤيا مناميَّة، ادَّعَى أنه جاءه فيها البشير من (أبي الهَول) بأحقيّته بتاج مِصْر! وقد كان خامل الذكر سياسيًّا، عليل الصحة، هزيل الجسم بصورة لافتة، كما دلّت على ذلك مومياؤه، وسرعان ما توفي شابًّا في الثلاثين من العمر، وذلك بمرض غير معروف.(1) وربما قال قائل إنه إلى هذا كانت إشارة «التوراة» إلى ما حذَّر الله به فرعون قائلًا: «فَقُلْتُ لَكَ: أَطْلِقِ ابْنِي لِيَعْبُدَنِي، فَأَبَيْتَ أَنْ تُطْلِقَهُ. هَا أَنَا أَقْتُلُ ابْنَكَ الْبِكْرَ.»(2) وظاهرة تلك الأمراض دعت بعض الدارسين إلى افتراض أن هذا كله كان عن مرضٍ عائليّ.(3) غير أن المؤمن بما جاء في «التوراة» و»القرآن» حول ما أصاب المصريِّين من أمراض- والآخِذ بفرضيَّتنا حول فرعون التسخير والخروج- يمكن أن يكون له تفسير آخر لتلك الظواهر الصحيَّة. فحسب (سِفر الخروج) أن الأوبئة ضربت المِصْريّين، ومنها «الدُّمَّل»(4)، ضِمن آيات موسى وهارون لإنذار فرعون:
«ثُمَّ قَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى وَهَارُونَ: «خُذَا مِلْءَ أَيْدِيكُمَا مِنْ رَمَادِ الأَتُونِ، وَلْيُذَرِّهِ مُوسَى نَحْوَ السَّمَاءِ أَمَامَ عَيْنَيْ فِرْعَوْنَ، لِيَصِيرَ غُبَارًا عَلَى كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ. فَيَصِيرَ عَلَى النَّاسِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ دَمَامِلَ طَالِعَةً بِبُثُورٍ فِي كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ». فَأَخَذَا رَمَادَ الأَتُونِ وَوَقَفَا أَمَامَ فِرْعَوْنَ، وَذَرَّاهُ مُوسَى نَحْوَ السَّمَاءِ، فَصَارَ دَمَامِلَ بُثُورٍ طَالِعَةً فِي النَّاسِ وَفِي الْبَهَائِمِ. وَلَمْ يَسْتَطِعِ الْعَرَّافُونَ أَنْ يَقِفُوا أَمَامَ مُوسَى مِنْ أَجْلِ الدَّمَامِلِ، لأَنَّ الدَّمَامِلَ كَانَتْ فِي الْعَرَّافِينَ وَفِي كُلِّ الْمِصْرِيِّينَ. وَلكِنْ شَدَّدَ الرَّبُّ قَلْبَ فِرْعَوْنَ فَلَمْ يَسْمَعْ لَهُمَا، كَمَا كَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى.»(5)
فلماذا يستبعد بعض الدارسين أن يكون وباءٌ قد اجتاح هؤلاء، بقطع النظر عن سببه، إعجازيًّا كان أو غير إعجازيّ؟
بذا فكأن (أمنحُتِب الرابع/ أخناتون، -1336/ 1334ق.م) إنما تأثَّر في ثورته الدِّينيَّة اللاحقة بعاملَين: دعوة موسى التي أدرك آثارها وأخبارها من عهد أبيه (أمنحُتِب الثالث)، وجدَّيه الأدنَين (تحوت موسى الرابع)، و(أمنحُتِب الثاني)، وما لعلّها وقعت من أحداثٍ إبّان الخروج وأعقابه، ممّا دفعه لإعادة التفكير جذريًّا وبجرأة في عقائد المِصْريِّين، فوُصم بالهرطقة، وانقُلب على توجّهه التوحيدي. والمؤرخون يشيرون إلى أن حركة الإصلاح الدِّيني كان تيّارها قد بدأ بعد (أمنحُتِب الثاني) مباشرةً، منذ عهد ابنه (تحوت موسى الرابع)، وذلك نحو القضاء على الوثنيَّة والاتّجاه إلى التوحيد(6)، وصولًا إلى نضج هذا التيار في عهد (أخناتون)، الذي انقلب عليه لاحقوه من الفراعنة، عائدين إلى وثنيّات الأسلاف قبل (تحوت موسى الرابع).(7) فماذا يعني هذا (بداية التوحيد بعد وفاة أمنحُتِب الثاني)؟ ألا يشي بأنه بأثر الدعوة الموسويَّة، وما تمخّض عنها من آثار في الوجدان المصري، في عهد (تحوت موسى الثالث)، فرعون الاضطهاد، و(أمنحُتِب الثاني)، فرعون الخروج؟! يبدو ذاك.
من هذا يتضح أن رسائل الاستغاثة التي وردت إلى (أخناتون) من الكنعانيين في فلسطين تنسجم مع هذا التحليل؛ إذ يكون قد مضى على خروج العبرانيّين من مِصْر نحو 60 سنة. فهي تعبِّر عن وصول هؤلاء الخارجين إلى فلسطين وبدئهم في مناوشة الكنعانيِّين عن أرضهم. لكن أخناتون لم يُعِرهم التفاتًا لأنه من جهة كان مشغولًا بالإصلاح الدِّيني الداخلي، ومن جهة أُخرى كان يبدو على مِلَّة توحيديّة تقترب من دعوة موسى، وليس خصيمًا لها، كسابقية ولاحقيه من الملوك.
ثمَّ جاءت لوحة (مرنبتاح، -1203 ق.م)، التي تشير إلى انتصاره على أرض كنعان وإسرائيل معًا، والقائلة: «إسرائيل ضائعة، وبذرتها عقيم، أو لا تنمو»، لتدلّنا على أن الصراع مع أولئك الفارِّين من مِصْر كان ما يزال مستمرًّا، بعد قرابة قرنَين. غير أن ذلك النصّ يحمل دلالات على أن العبرانيِّين قد صاروا يمثّلون قوة خارجية- إلى جانب الكنعانيِّين والحثيِّين- وأنهم أ صبحوا كيانًا مستقلًّا عن مِصْر؛ ولذلك قال: «وخربت إسرائيل»، كما وصفهم بالتِّيه والضياع. وفي هذا إشارات واضحة إلى أنهم باتوا خارج مِصْر، وأنهم صاروا كيانًا يُحسب له حساب، وأن خروجهم، إذن، كان قبل عهده بأمد طويل.
ثمَّ إذا رجعنا إلى «العهد القديم» وجدناه قائلًا: «وَكَانَ فِي سَنَةِ الأَرْبَعِ مِئَةٍ وَالثَّمَانِينَ لِخُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ لِمُلْكِ سُلَيْمَانَ عَلَى إِسْرَائِيلَ، فِي شَهْرِ زِيُو وَهُوَ الشَّهْرُ الثَّانِي، أَنَّهُ بَنَى الْبَيْتَ لِلرَّبِّ.» فإذا علمنا أن سليمان توفي في بدايات القرن العاشر قبل الميلاد، بدا هذا التاريخ منسجمًا مع تقديرنا خروج العبرانيِّين في عام 1401ق.م. ويكون بناء الهيكل عام 921ق.م تقريبًا: [1401- 480= 921ق.م]. وهنا لا بُدّ من إعادة النظر في تاريخ وفاة سليمان أيضًا، الذي يُذهب فيه إلى أنه 925ق.م، أو قبل ذلك. فإذا صحّ ما تقدَّم، لزم أن تكون وفاة سليمان بعد 920ق.م بسنوات، فهو- على كلّ حال- لم يُعمَّر طويلًا، بل توفي عن نيِّف وخمسين سنة.(8)
أمَّا ما ورد في «التوراة» من أن «إِقَامَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي أَقَامُوهَا فِي مِصْرَ كَانَتْ أَرْبَعَ مِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً»، ففيه نظر، وقد يبدو تقديرًا ارتجاليًّا خاطئًا. ولعلّ إقامتهم في مِصْر لا تتجاوز قرنَين ونصف، خلال حكم (الهكسوس)، ثمَّ جاءت الأسرة الفرعونيَّة الثامنة عشرة فطردت الهكسوس، وسرعان ما لَحِق بهم العبرانيُّون، بعد سبعة ملوك، وذلك في عام 1401ق.م تقريبًا. على أنه ينبغي أن تؤخذ الأرقام التي ترد في «التوراة»، وفي «العهد القديم» عمومًا، بتحفّظ شديد، لا بدلالاتها الحَرفيَّة. ذلك أنه- فضلًا عن المبالغات الفاحشة في الأرقام الواردة في حروب بني إسرائيل، وما تُساق فيها من أرقام خياليَّة، الهدف منها التهويل والترهيب- يُلحظ أن الرقم «أربعة» بخاصَّة كان يمثِّل رقمًا نمطيًّا يتكرّر في «العهد القديم»، على نحوٍ لافت، وكأنه لا يعني حقيقة الرقم، بل تعظيم العدد؛ فهو يبدو من هذه الناحية مثل الرقم «سبعة» في العربيَّة القديمة. فأنت تجد، مثلًا، القول: إن مطر الطوفان استمرّ «أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً». وإن أَرْفَكْشَاد عاشَ أربعَ مِئَةٍ وثلاثَ سِنينَ، وعاشَ شالَحُ أربعَ مِئَةٍ وثلاثَ سِنينَ، وعاشَ عابِرُ أربعَ مِئَةٍ وثلاثينَ سنة. فعُمْر الأخيرَين هو نفسه عُمْر إقامة بني إسرائيل في مِصْر! وقال الرب لإبراهيم: «اعْلَمْ يَقِينًا أَنَّ نَسْلَكَ سَيَكُونُ غَرِيبًا فِي أَرْضٍ لَيْسَتْ لَهُمْ، وَيُسْتَعْبَدُونَ لَهُمْ. فَيُذِلُّونَهُمْ أَرْبَعَ مِئَةِ سَنَةٍ». «وَكَانَ إِسْحَاقُ ابْنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمَّا اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ زَوْجَةً». «وَلَمَّا كَانَ عِيسُو ابْنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً اتَّخَذَ زَوْجَةً». «وَكَمُلَ لِيعقوبَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، لأَنَّهُ هكَذَا تَكْمُلُ أَيَّامُ الْمُحَنَّطِينَ». وكانت «إِقَامَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مِصْرَ أَرْبَعَ مِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً»، «وَأَكَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْمَنَّ أَرْبَعِينَ سَنَةً». «وَكَانَ مُوسَى فِي الْجَبَلِ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً». وكان بناء الهيكل «فِي سَنَةِ الأَرْبَعِ مِئَةٍ وَالثَّمَانِينَ لِخُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ». وهكذا كان الرقم «أربعة» يتردّد بطريقةٍ تجعل حقيقة معناه محلّ شكّ.
وفي المقال الآتي نُفصِّل القول في علاقة بني إسرائيل بالهكسوس، وحقيقة إقامتهم في مِصْر.
** ** **
(1) انظر: ديورانت، وِل وايريْل، (1971)، قِصَّة الحضارة- الشرق الأدنى، ترجمة: محمَّد بدران (بيروت: دار الجيل)، ج2 م1: 80؛ موسوعة «الويكيبيديا»:
https://ar.wikipedia.org/wiki/تحوتمس_الرابع
(2) سِفر الخروج، 4: 23.
(3) انظر: بوكاي، موريس، (1990)، التوراة والإنجيل والقرآن والعِلْم، ترجمة: حسن خالد (بيروت: المكتب الإسلامي)، 269.
(4) الوارد في الآية القرآنيَّة، (سورة الأعراف، الآية 123): «القُمَّل».
(5) سِفر الخروج، 9: 8- 12.
(6) مفهوم «التوحيد» هنا لا يُطابق مفهومه الإسلامي. فكثيرًا ما نقف على القول بـ»التوحيد» في اللاهوت المِصْري القديم، حتى ليبلغ الزعم في ذلك إلى القول بالاعتقاد في «إلهٍ أحدٍ فردٍ صَمَد»! (انظر مثلًا: استيندرف، (1923)، ديانة قدماء المصريِّين، تعريب: سليم حسن (مِصْر: مطبعة المعارف)، 33). ويزداد الإلحاح على ذلك لدى الحديث عن (أخناتون) وحركته الدِّينيَّة. وتعليل ذلك أن الكاتب إمّا ذو خلفيَّة مسيحيَّة، لها تصوّرها الخاص للتوحيد، أو أن ذلك بمعنى توحيد بلدات مِصْر في تصوُّرٍ واحدٍ للآلهة.
(7) انظر: حسن، سليم، (1992)، موسوعة مِصْر القديمة، ج5 (السي ادة العالمية والتوحيد)، (القاهرة: الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب): ص4.
(8) مَلَك 40 سنة. (انظر: العهد القديم، سِفر الملوك الثاني، 11: 42؛ الطبري، (1967)، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم (القاهرة: دار المعارف)، 1: 503). ومن الطريف هنا أن نجد في كتاب (ابن كثير، (1998)، البداية والنهاية، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي (القاهرة: دار هجر)، 2: 356)، عند الوقوف على المعلومة المتعلِّقة بالمُدَّة التي حكم فيها (سليمان)، ومتى بنى الهيكل، أو (بيت المقدس)، إحالة القارئ إلى (الطبري)، وكأنه مصدر معلومة (ابن كثير). والحقّ أن مصدرهما معًا هو «العهد القديم»، فعنه اغترفا في التاريخ وفي التفسير، ونقلا من الحقائق والأساطير، وإنْ لم يوثِّقا، بل اكتفيا بعبارة: «فيما ذُكِر».
- الرياض
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify