لا يختلف اثنان على أنَّ الثقافة بجميع أنواعها من أهم الأمور التي ينبغي توافرها في المبدع، حيث تمنحه هذه الثقافة مساحةً واسعةً من الإبداع، وكلما زاد رصيده منها زادت مساحة إبداعه وتفننه في أساليب القول وطرق التعبير. بل يمكن القول إنَّ مستوى الثقافة يتدخَّل بشكلٍ واضحٍ في تفاوت منازل المبدعين، ومن يتتبع التاريخ الأدبي سيجد أن تقدُّم بعضهم وتأخر آخرين مرهونٌ بمستوى الثقافة التي يمتلكها الواحد منهم. ومن النماذج التراثية التي تكشف عن ذلك ما يبدعه لنا مالئ الدنيا وشاغل الناس من نصوصٍ مثيرةٍ للدهشة؛ بسبب ما تحمله من صورٍ إبداعيةٍ ولوحاتٍ فنيةٍ في غاية البراعة والجمال، كما جاء في سياق مديحه لسيف الدولة:
فإنْ تَفُقِ الأنامَ وأنتَ مِنهُمْ
فَإنَّ المِسْكَ بعضُ دَمِ الغَزَالِ
فهذا البيت الذي احتفى به النقاد، وأسرف البلاغيون في الاستشهاد به على التشبيه الضمني، يمثل بوضوح الثقافة الواسعة التي كان يتميز بها الشاعر، وكيف أفاد منها في إبداع هذه الصورة العبقرية، وهنا لا بد من وقفةٍ سريعة مع هذه الحقيقة التي اعتمد عليها أبو الطيب في بناء هذا النص المتميز، وذلك من خلال الاستعانة بمحركات البحث والمصادر التي تهتم بالبيئة الحيوانية.
تشير المصادر إلى أنَّ (المسك) اسم لنوع من الأطياب القليلة التي يكون مصدرها حيوانيا, ولذا يشير الشاعر إلى أنَّ مصدره الغزال, غير أنَّ هذا لا يعني أن كل أنواع الغزلان تنتج (المسك)، وإنما الذي ينتجه (أَيل) يعرف بـ(أيل المسك) MUSK DEER، واسمه العلمي: MOSCHUS MOSCHI FERUS، وهو حيوانٌ له شكل الغزال عامة, طوله يبلغ نحو المتر إلا قليلاً، وارتفاعه عند الأكتاف يبلغ نحو نصف المتر, وشعره بني رمادي، طويل وخشن, خواف يسعى لطلب طعامه ليلاً, كما أنه سريع الهرب؛ لهذا لا يجد الصيادون إلا نصب المصائد سبيلاً إليه, يقطن غابات (الهملايا)، ويفضل أعاليها، وتمتد مساكنه إلى (التبت) وإلى (سيبيريا)، والشمال الغربي من (الصين)، وأواسط آسيا عامة.
أما (المسك) فيوجد من هذا (الأيل) في كيسٍ يبلغ حجم البرتقالة، في بطنه عند الفتحة القلفية للذكور دون الإناث، ففي هذا الكيس يفرز (الأيل) مسكه, والذكور من (أيل المسك) هي وحدها مصدر (المسك), ولا بُدَّ من قتل (الأيل) الذكر أولاً ثم فصل هذا الكيس، أو الغُدَّة فصلاً كاملاً، ثم تجفيفها في الشمس، أو على حجر، أو تغطَّس في زيتٍ ساخن.
إن هذه المعرفة بمصدر المسك وكيفية استخراجه هي التي أتاحت لأبي الطيب تكوين هذه الصورة الفنية العبقرية، إضافة إلى موهبته وذكائه الأدبي في استثمار هذه الثقافة لبناء هذا الدلالة العجيبة التي أسهمت في خدمة غرضه وتحقيق مراده، من خلال أسلوب أدبي جميل، وتعبير متميز أخاذ، وهذه الأمور هي التي جعلت شعراء أمثال أبي الطيب ينالون كل هذه الشهرة الأدبية، ويتربعون الصدارة في التاريخ الأدبي والتراث العربي.
والثقافة التي يحتاجها المبدع حتى يمكن له التحليق في فضاءات الإبداع ليست مقصورة على المعرفة الحياتية، فهناك مثلا الثقافة اللغوية التي تتيح للشاعر أن يتمدد في مساحات النص كيفما شاء، وتساعده في تشكيل الرؤى والدلالات التي ينتجها فكره، وما دام الحديث عن أبي الطيب بوصفه أنموذجاً للمبدع المثقف فقد عُرف عنه براعته في اللغة التي تفوق فيها على علمائها المبرزين، حيث روي أنَّ الشيخ أبا علي الفارسي قال له يوماً: كم لنا من الجموع على وزن (فَعْلى)؟ فقال المتنبي في الحال: حَجْلى وظَرْبى، يقول الفارسي: فطالعتُ في كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهذين الجمعين ثالثاً فلم أجد!
إنَّ من ينظر في إنتاجنا الأدبي اليوم -على كثرته وضخامته وتسارع صدوره- سيرى بوضوح مدى الضعف الذي يعانيه، والهشاشة التي لا تخطئها العين، سواء أكان ذلك على مستوى النصوص الشعرية أو السردية، وأكاد أجزم أنَّ السبب الرئيس في هذا الضعف راجعٌ إلى افتقاد الثقافة وعدم الإلمام بكثيرٍ من المعارف والمعلومات التي تسهم في النهوض بالنص، ومنحه قدراً عالياً من الجودة والجدة.
غير أن كثيراً ممن يسمون أنفسهم (مبدعين) ليس لديهم الوقت لاكتساب هذه الثقافة! لأنهم يريدون الدخول إلى عالم الإبداع في وقت مبكر! وما دامت كثير من دور النشر تهدف إلى تحقيق المكاسب المادية بعيداً عن الجودة والتميز فلا مانع لديها من نشر (هرطقات) و(خزعبلات) يكتبها (مخدوع) ورَّطه أصحابه بالدخول إلى هذا العالم دون أن يكون لديه أدنى حظ من الثقافة اللازمة، فبات يتصدَّر منصات التوقيع، وصارت طبعات كتبه تتجاوز العشرين! لأنها لقيت جمهوراً ضعيفاً خُدع هو الآخر بالدعاية، وبهرته الطباعة الفاخرة والعناوين الجذابة، فراح يقبل على شراء هذه (التمتمات) التي لا تساو ي الحبر الذي كُتبت به!
- الرياض
Omar1401@gmail.com