(1)
طبيعةٌ في الحرب أنّها لا تعرف الرأفة كما يصوّرها الإعلام أحياناً بطريقة غير مباشرة، وذلك أثناء تسليط الضوء على جهةٍ تفتك في الحرب: (الجيش العربي السوري بقيادة الأسد الابن) وتُخلّفُ وحشيتُها قتلى بأعداد هائلة جرّاء فتكها وبطشها؛ وهذا النوع من التسليط الأحادي جزء من عمل الحرب من قبيل تسويق الحالة بعين واحدة، يريد أن يقول لك: إنّ هناك حروباً تُدار بأخلاقٍ إنسانيّة لا يعرفها هذا المجرم وجيشه ونظامه، وهي موجودة في الطرف المقابل: (الجيش السوري الحر والفتح والنصرة وغيرها من الحركات المسلّحة، حتّى تنظيم الدولة فثمّة تصوّرات متطرّفة مطروحة علناً تربط بين القضاء عليه وبين التسوية النهائيّة تحت اشتراط سقوط النظام ورئيسه) والواقع أنّ أطراف المعارضة المسلّحة تتحمّل ما يتحمّله الطرف الأوّل وتشاطره المسؤولية غصباً عن فذلكاتهم وتبريراتهم، فالحرب ليست طرفاً واحداً، ولا تكون كذلك؛ الحرب طرفان أو أطراف.
فهل لك عينان لتسمع؟ وهل لكَ آذنان لترى؟ هذا الذي لا اسم له من الوضوح الفجّ. كُلّ حربٍ حربٌ، دمارٌ، والحسابات لا تكون أخلاقيّة أثناء الحرب عند جميع الأطراف، حتى الضعيف قد يضطرّ أن يكون مجرماً في طريقة دفاعه، حينما يتدارك بطش القويّ ويستمرئ حماية نفسه في دُور العبادة وبين أبنيّة المدنيين! هنا يبدو قبول الواقع أعنف من نكرانه، حيث تشترك الضحيّة في مسؤولية الإجرام الواقع عليها، وتكون المسؤولية في أعناق الأطراف جميعاً.
الحربُ كلّها ظالمةٌ حتى العادلة منها، إن وجدت، أو أنّك أُجبرتَ عليها اضطراراً. وليس الحرب في سوريّة استثناء، لكنّ الاستثناء في نكرانها وتدويلها على أنّها ثورة شعب ضدّ نظام، والمسألة: أنّ النكران ليس محصوراً في الأطراف المقاتلة للنظام السوري، بل يمتدّ لكتّاب عرب مناصرين، ويهمّنا هنا كتّاب سعوديين يدّعون المدنيّة والعلمانيّة والحرص على مفاهيم المواطنة والتعايش والحلول السلميّة، بل ينتقدون رجال دين متطرّفين اشتهروا بتحريضاتهم للقتال، ثمّ تجد هؤلاء الكتّاب يصرّون أنّ الحرب ليس سوى (ثورة شعب ضّد نظام) وهو عين الخطاب الطائفي، وهم بذلك يفوّضون أنفسهم بالإنابة عن المواطنين السوريين على أنّهم طيفٌ واحدٌ متوافق مع هواهم، ويقرّرون أنّه لا يوجد مواطنين مع النظام، وأنّ كلّ المواطنين مع المعارضة المنقسمة، وليس مع الدولة السوريّة إلاّ حزب الله وإيران وروسيا والصين، وهي جهات ودول خارجيّة تؤكد دعمها للنظام؛ حسناً، وماذا عن المعارضة المنقسمة؟ أجميعها أطراف داخلية مؤيّدة من المواطنين؟ بريئة من أيّ دم؟ تقاتل بشرف ولا تقتل أبرياءً أو تتسبّب بمقتلهم؟ ألا تستند إلى دعم خارجي من مرتزقة/مغرّر بهم/متطرّفين/مسعورين للدم (سمّهم ما شئت) وأنّ تمويلها وبقاءها يرتبط بدول لا تخفي التمويل والدعم المادي والعسكري واللوجستي؟!
ليس التحريض في هذه الحرب مقصوراً على رجال دين متطرّفين فحسب، فهناك تحريض من أطراف أخرى على النقيض، لكنه، في المحصّلة لا يختلف تطرّفاً في الدعوة لاستمرار الحرب في بلد صار به عديد القتلى والمهاجرين والمتضرّرين والمشرّدين واللاجئين أكثر من الناجين والباقين فيها. ألا تحتمّ هذه الإبادة على أحد الأطراف -وفي معرض حديثه عن الأخلاق - الاستسلامَ عن طموحه، وهذا من المفاهيم المهملة التي لم تبلور بعد، وإعادة النظر فيه ضرورة سياسيّة براجماتيّة، ويمكن أن نعدّه موقفاً تاريخيّاً بحدّ ذاته، فليس الاستسلام الذي وقّعته اليابان في الحرب العالمية الثانية ذلاً لها، وتحسب للأمبراطور الياباني وقياداته قدرتهم في كتم غيظ الهزيمة وإعلانها دون عناد وشخصانيّة حمايةً للإنسان الياباني: ليس وجوده وحسب، بل ذاكرته وضميره، وهما المسؤولان عن بقاء الأمل في معنى الحياة.
(2)
الاستسلام بوصفه بطولة هو الحلّ الآن؟ أنّه آخر أمل في انتشال سوريّة من المحو، في استئصال أورام انتشرت في الروح السوريّ المكلوم. أيكون الاستسلامُ كسرَ عظمٍ أو رأس في هذه الكارثة الإنسانيّة؟ أم قراراً إنسانياً شجاعاً وعظيماً في آن؟ أم ضرورة سوف يذهب إليها الأطراف تحت قوّة الوقائع على الأرض؟! لقد درج على الثقافة المثالية والدينيّة وأيّ ثقافة مدنيّة متطرّفة عنيدة أن تضع تصوّراً نهائياً ومتطرّفاً ضد الاستسلام بوصفه عاراً وخيانةً وتنازلاً في جميع حالاته، وهو تصوّر يشترك في مسؤولية تطرّف الإنسان والتضحية به واسترخاص قيمته، حينما تكون فوبيا الاستسلام أهم من نفوس الإنسان وذاكرته وضميره.
ليس الاستسلام دائماً يودي بصاحبه إلى التبعيّة، للاستسلام وجوه تجعله قراراً تاريخيّاً، كما فعلت اليابان، وكما فعلت إيران في نهاية حربها مع العراق، فانظر ماذا جرى لاحقاً؟
ماذا لو أقرّت الأطراف قبولها حلاً سياسيّاً يقوده النظام ورئيسه في مرحلته الانتقاليّة؟ ماذا لو أقرّت بعجزها عن إنهاء الصراع لأحد الأطراف ورفعت الراية استسلاماً يوقف هذا النهر الجاري من الدماء؟ لطالما ليس في حسابات النظام السوريّ الاستسلام والموافقة على تنحّي رئيسه؟ لطالما يستمرّ في تصوّراته عن شرعيّة بقائه مستخدماً كلّ ما يقدر عليه لأجل البقاء في السلطة، حينذاك، فإنّ السياسة والبراجماتية والوجودية والضمير والأخلاق تلزم الأطراف الأخرى بالاستسلام على قاعدة تفاوضيّة تغيّر من قواعد النزاع على الأرض وصولاً إلى السلم، وإن لم يحدث فإنه يقع عليها من المسؤولية ما يقع على النظام ورئيسه، وهي أحرى بهذا الفعل منه، لأنها لا تتوّقف عن استخدام هذه الحجج الإنسانية في استبداد النظام وإجرامه في سبيل البقاء بدم باردٍ ولا مبالاة بسورية ودماء الإنسان فيها؛ فهل لعاقل أن يسأل هؤلاء الذين يتحدّثون عن حرصهم على وحدة سورية وحماية إنسانها: هل استمرار الحرب حتى الإطاحة بالنظام أو رئيسه تُبالي بسورية وإنسانها؟ لطالما أعداء (الأسد) يتّهمونه بالتشبّث بالسلطة وإن كان الثمن دمار سوريّة، فحريّ بهم أن لا يقعوا في التشبّث نفسه، ويتنازلوا عن السعي لإسقاطه - وقد عجزوا عن ترجيح كفّة القوة لصالحهم- حرصاً على ما تبقّى من سوريّة وإنسانها، دون ذلك لا يحقّ لأيّ طرفٍ أن يمرّر ادّعاءاته أنّه يثبت على موقفه لأجل مصلحة سورية وإنسانها؛ فالدم في أعناقهم جميعاً.
هل سقوط (الأسد) يستحقّ كلّ هذه التكاليف؟ وهل سقوطه سوف ينهي الصراع على الأرض؟ أليس ثمّة احتمالات أن تزداد اضطرابات المنطقة؟ وقد تنتشر وتتمدّد في دول الجوار، ولا نستبعد الخليج ونحن نتذوّق مرارة التطرّف في عمليات إرهابيّة في الداخل لم يسلم منها المصلّين في المساجد.
ما الذي يريده خطاب التحريض والتعبئة؟ ما هو واقع تصوّره لمرحلة ما بعد النظام السوري أو رئيسه؟ ماذا هي إستراتيجيّته؟ وكيف يمكن أن يدافع عن سقوطه في العشوائيّة وخلّوه من أيّ رؤية ليست متورّطة بطائفيّة سوف تحرق الأخضر واليابس.
مرّت سنوات على (بروبوغندا الثورة) وما زال هناك من يسوّق لها؛ دُمّرت بلدٌ وانهزم الإنسان فيها: (ذاكرته وضميره) وما زال الإصرار على تدمير كلّ شيء حتى يشغر كرسي الرئاسة في الدولة السورية التي لم تعد موجودة على الأرض، وليس سهلاً الاستسلام لحلم إعادتها كما كانت.
(3)
خسروا جميعاً؛
الذين راهنوا على سقوط سريع للسلطة في سورية خاب رهانهم، أطرافُ النزاع المسلّح: النظامُ لم يقض على المعارضة المسلّحة كما وعد، وفقد وحدة الدولة وحماية مواطنيه بضعف قبضته الأمنية، المعارضةُ المسلّحةُ لم تُسقط النظام كما وعدت وسبّبت الويلات للمدنيين نتيجة وجودها وانقساماتها وانفتاحها على التطرّف الديني، الدولُ التي تُعيل ميزانيات الحرب وتنفق على الجانبين، القنواتُ التي تنشر لهذا شرعيّة ولذاك شرعيّة، وكلاهما: النظام والمعارضة قد سلّم أمر سورية ومصيرها إلى حلفائهما.
خسروا جميعاً؛
الأمريكان، الروس، الأوروبيّون، الخليجيون، الإيرانيّون، العراقيون، السوريّون بجميع أطيافهم، لم ينتصر أحدٌ.
لا النفوس التي زهقت سوف تعود إلى الحياة، لا الذكريات التي دُمّرت يمكن إعادة تخيّيلها وقد دُمّرت الأمكنة وشُوّه الزمن، ولا الضمير المكبّل بالثآرات والعذابات قادر على مصالحة الحياة، لا شيء يعود إلى سابق عهده، حتّى التاريخ بدأ أنّه يُمحى في هذه الخارطة الأقدم في حياة الإنسان المؤرخ الواعي؛ أمِن قدرٍ أن يبدأ التاريخ في سوريّة وينتهي فيها تاريخ الإنسان السوري، فلا يبقى منها ما يؤكّد على بداية التاريخ منها وفيها.
الحديث عن وحدة سورية هو تأكيدٌ على إقرار تقسيمها تحت بند: الوقائع على الأرض.
الحديث عن عودة سوريّة هو تأكيدٌ على إقرار محوها.
هل يُعادل (بشار الأسد) كلّ هذه الخسائر؟ التاريخ، الإنسان، الحياة! هل يُعادل الضحايا الذين سقطوا مرّات عدّة: على يديه، وعلى أيدي أطراف المعارضة المسلّحة؟ الضحايا الذين سقطوا من عسكر ومدنيين ومرتزقة ومغرّر بهم جاؤوا من بلاد بعيدة باسم الرب المعبود وارتضوا دون استحياء أن يكونوا أزلاماً وتوابع ومستلزمين وخرافاً لرعاة الدم.
خسروا جميعاً؛
دُعاة الدولة، دعاة الدين، دعاة العلمانية، دعاة الثقافة، دعاة النور، دعاة الظلام..
لا شيء في الوجع السوري سوى الخسارة المريرة. لم يعد أملاً في الحياة على هذا الشرق الشرّ، والهجرة ليست ترف متقاعدين، الهجرة - هنا- آخر ما يمكن أن يقدّمه السوريّ عزاءً على أنّه حيٌّ وإن كانت سوريّة ميّتة، على أنّه موجودٌ وإن كانت سوريّة محواً، على أنّه ضدّ هذا الفناء الذي يتفنن النظام والمعارضة في إحلال على سورية وإنسانها.
يفتّشون عن حلّ ليس فيه أيّ نوعٍ من الاستسلام والتنازل، يفتّشون عن حلٍّ ليس فيه حلّ: وماذا بعد؟ ماذا بعد اليوم التالي لسقوط (الأسد) أو تنحّيه؟ هل تقف الحرب؟ وماذا بعد اليوم التالي لانتهاء الحرب؟ ما الذي بقي من سوريّة؟ مرتزقة تحكم الناس في مدن سوريّا وبلداتها، وأهل البلاد تحت ترابها وحطام قُراها ومدنها دون شواهد للموتى. الموتُ الطبيعيُّ نفسه ماتَ في سوريّة، مات عن تقاليده، لا عزاء، لا قراءات، لا أجراس، لا شهادات وفاةٍ لا جنازات؛ والبقيّة ينتظرون استسلاماً من أيّ طرفٍ حتى يلمّون أرواحهم ونفوسهم المكلومة من ويلات هذا الجحيم.
أيها الدم الملعون بالنزيف، يا أيّها الدم الذي لا يتعبُ من جريان نهره ما الذي تبقّى في سوريّة؟! وأنتِ أيّتها الإبادةُ ألا تشبعين محواً في سوريّة العظيمة والرجيمة، سوريّة الذابحة والذبيحة..
- جدة