في المدرسة المتوسطة بالمذنب عام 1381هـ وقف معلم سوداني فارع الطول أمام الفصل يستقبل طلابه بابتسامة ساحرة وهدوء وأريحية آسرة، يمر الطلاب يلتفتون إليه قائلين «وش لونك يا استاد». بعد نهاية الدرس توجه إلى الإدارة يحمل سؤالًا حيره: لِمَ يسأله الطلاب عن لونه الذي لا أوضح منه! قيل له إنهم يحيونك ويسألون عن صحتك، يقصدون «كيف حالك يا أستاذ»، ولم تمض مدة طويلة حتى عرفه الناس وعرف الناس أحبوه وأحبهم، يصلي معهم في مسجد ابن رخيص المقابل للبيت الذي استأجره من (زبين) وإلى جواره زميله من سوريا الأستاذ (رضا)، كانا مختلفين في كل شيء، فهذا أسمر طويل وذلك أبيض بدين فإذا جاء الشتاء نال الأستاذ (عبدالقادر محمد محمد علي) الكرب من شدة البرودة فيحشر نفسه في الوار (واركوت) وأما الآخر فسعيد بالبرد يمشي بألبسة خفيفة، حتى إذا حل الصيف انقلب الحال فعانى الأستاذ رضا الكرب من شدة الحرارة وأسرف على نفسه في التحمم وملازمة حوض الماء ما أمكن، وأما أستاذنا عبدالقادر فليس أسعد منه بالجو حتى إنه لما أنشأ أخي محمد النادي الرياضي الأهلي بالمذنب تبرع أن يكون مدربًا للفريق وأن يشاركهم اللعب في مبارياتهم.
كان دخولي المدرسة المتوسطة في المذنب عام 1383ه، لست أنسى في ذلك العام في أول درس للإنشاء كيف أعجبه ما كتبته في دفتري أول واجب كلفناه، وكان لقراءة الموضوع على الطلاب أثر بالغ في التعلق بالعربية وعلومها، وهو أمر بدأ في المرحلة الابتدائية حيث علمنا أخي رشيد الشمسان قواعد العربية وكيف تلقينا عليه دروس القراءة بمتعة بالغة لما يتحلى به من مهارة عالية في التعليم، وكان الدرس مع أستاذنا عبدالقادر معمقًا لهذا الشغف فزادت قراءتي من مكتبة المدرسة وشجعني على تخصيص كراسة لكتابة ملخص للكتاب أو تعليق عليه، وتكفل بقراءة ذلك والتعليق عليه من غير ملل، وما شعرت يومًا بازوراره عن ذلك.
يدخل الفصل فيكتب البسملة على اللوح والتاريخ والموضوع، كل ذلك بخط عريض يتأنق في كتابته، وهو خط يختلف عن خط الخطوط المألوفة فكنت أحسبه خاصًّا به حتى تبين أنه لون من الخط الشائع في أفريقيا، عرفت ذلك باطلاعي بعد سنوات طوال على مخطوطات أفريقية.
كانت دروس أستاذنا عبدالقادر من أمتع الدروس، أحبه طلابه على تباينهم في التحصيل، وكان إلى تعليمه يشارك في النشاط المدرسي، أذكر أنه ألف تمثيلية عن (المحاكمة) أبطالها القاضي والمدعي العام والمتهم المحاكَم، أسند دور القاضي لي، وأسند دور المدعي العام إلى صالح الجارالله، وأما المتهم فهو عبدالكريم الجريدي، أنفقنا أيامًا نتدرب معه آخر النهار في المدرسة حتى أتقنا الأدوار، وعندما مثلنا أمام الجمهور في ذلك المساء، بدأنا التمثيل فأعطيت الكلمة المدعي العام فتلا الصحيفة التي بين يديه، ثم أرتج علي فلم أعرف ما النص الذي عليّ قوله، وكذلك بدأ الجريدي بأقوال خطأ، فلم أملك سوى أمر المدعي العام بإعادة القراءة، فراح باستغراب يقرأ، وأحس الناس أنا فشلنا فشلًا ذريعًا، فصفقوا لنا، وانصرفنا مجللين بالخجل من ذلك، وكان واجب درس الإنشاء بعدها أن نكتب عن الحفلة التي شهدناها، وكتبت واصفًا ما حدث، محللًا الموقف النفسي، وأن الخوف من الخطأ أوقعني في الخطأ، وأن الرهاب قد فعل فعله، ورأيت أستاذي يقرأ الموضوع على الطلاب وهو غارق في الضحك والسرور من جمال ما يقرأ من تحليل طريف لما حصل.
لم يكن يقرأ لي واجبات الإنشاء أو تعليقاتي على ما أقرأ من كتب المكتبة فقط بل كان يقرأ لي ما أكتبه من كتابات حرة، منها القصص القصيرة ومنها (سباحين)(1) سمعتها من أمي وأخواتي. ومن الموضوعات التي كتبتها موضوع عن (الموسيقا)، وفي يوم وقف في الفصل يقرأ الموضوع ولكنه عجز عن الاستمرار؛ إذ لم يفلح في مدافعة موجة بكاء عارمة ودموع غزيرة، فطوى أوراقه وخرج من الفصل ودهشة بالغة علت وجوه الطلاب، ولوم بشيء من المداعبة أني بكيت أستادهم أي أستاذهم، ولما عاد إلينا بعد عطلة ذلك العام كان بصحبته ملكة زوجته.
وفي عام 1382ه هطلت أمطار غزيرة وسالت الأودية متجهة في منحدراتها نحو المذنب حيث يستوعبها حوض المغيريب الواسع ويندفع ما زاد بين المزارع نحو السفايل غرب ضلع خرطم وخريطم؛ ولكن كانت مدافع السيل محبوسة بقنطرة لم يحسب منشئها حساب هذا السيل وما خطر بباله أنه مدمر تراكم الماء وتدافع وبدأ يعلو متراجعًا نحو البيوت المنتشرة على جانب الوادي بيوت طينية لم ترتفع على أساس من حجارة فرّ الناس من البيوت إلى ملاجئ أبعد وأرفع ومنها المدرسة وهي البناء الوحيد المبني بالإسمنت المسلح سكنوا المدرسة بقرار شجاع من مدير المدرسة أخي محمد الشمسان، وفي الصباح حين أشرقت الشمس كانت البيوت ركامًا من الطين يطمر أثاث تلك البيوت، وتعاون الناس من المنكوبين ومن سكان الضواحي على إزالة الأنقاض، وعلى كومة تلك الأنقاض رأيت أستاذنا عبدالقادر والعتلة بين يديه يدك الأنقاض بكل همة ونشاط كأنه واحد من هؤلاء المنكوبين.
سنتان من تعليمنا مضتا سراعًا، رأيته يطلب مني دفاتر الإنشاء فحملتها إلى بيته بكل فخر وسرور؛ ولكن الأسف يملأ تضاعيف نفسي لفراقه، وفي يوم حين أزف الرحيل وقف بعد صلاة العصر في مسجد ابن رخيص وخطب في الناس خطبة يودعهم بها ويشكر لهم حسن ضيافتهم ومعاملتهم له واحترامهم وحبهم الجم الذي ملأ قلبه وبين لهم أنه لن ينساهم، ونهض الناس لمعانقته وتوديعه وأثنوا عليه ودعوا له بالتوفيق في حله وترحاله، كان مشهد حبّ ووفاء منقطع النظير، ومضى إلى الجبيل كما اقتضت حركة التنقلات، ومن هناك جاءت رسائله تترى بل جاءت رسائل من طلابه الذين أحبوه وأحبوا طالبه الذي قرأ لهم بعض ما كتب في دفاتر الإنشاء، فكانت صداقة على بعد، كتب إليّ سعد النوبي ومحمد عبدالرحمن اليعيش، جمعتنا محبة أستاذنا النبيل عبدالقادر.
مضت الأيام وعاد أستاذنا إلى السودان وجاءت من هناك رسائله حيث صار يدرس في مدرسة متوسطة هناك، بل جاءت الرسائل من أخيه الطاهر محمد محمد علي؛ ولكنها الحياة التي تعصف بأهلها فتصرفهم عن كثير مما يريدون فانقطعت الرسائل وغابت الأخبار، إذ كانت الدراسة الجامعية فالبعثة للقاهرة للدراسات العليا، وعلى الرغم من كل ذلك كان الغائب الحاضر في الذهن، حتى إذا أنجزت أول عمل علمي يستحق النشر وأقدمت على نشره بما اقتطعته من مكافأة البعثة لم أفكر في إهداء الكتاب إلى أبي أو أمي، رحمها الله، ولا أخي الكبير محمد الذي هو بمثابة أبي، ولا إلى زوجتي العزيزة أم أوس وسمية، بل كتبت في إهداء (الجملة الشرطية عند النحاة العرب) «إلى أستاذي من السودان الشقيق: عبدالقادر محمد محمد علي، جزاء ما ثقفته من علمك وأدبك».
حملت نسخًا من الكتاب وتوجهت للملحق الثقافي في سفارة السودان في القاهرة، وأريته الإهداء، وشرحت له حرصي على وصول الكتاب إلى أستاذي، ووعدني خيرًا، فمضيت ظانًا أن الأمر سيأخذ سبيله؛ ولكن الأيام كشفت لي أنه لم يفعل أو أنه لم يوفق إلى فعل شيء من ذلك، ومضت الأيام، وعدت إلى الرياض لأخوض معمعة العمل وتربية أسرتي؛ ولكني ما كففت أسأل عن أستاذي، فسألت كل زملائي السودانيين في القسم، وأوصيتهم أن يسألوا عنه، وكلما وفد أستاذ جديد من السودان سألته وألحفت بالسؤال؛ ولكن أحدًا لم يستطع أن يصل إلى خبر منه.
شاركتني في سؤالي عنه هذه السنوات زوجتي الحبيبة أم أوس فما التقت بامرأة سودانية إلا أخبرتها بأمر بحثي عن أستاذي واهتمامي بمعرفة أخباره، حتى كان يوم التقت فيه سيدة كريمة من السودان هي السيدة الفاضلة عفاف بابكر وكانت في ذلك الوقت مديرة مكتب حرم رئيس جمهورية السودان، ولما سمعت الخبر أخذت رقم هاتف أم أوس واسم أستاذي على وعد بالبحث عنه، ومضت خمس سنوات بعد هذا فأيقنا أن الوعد كغيره من الوعود التي وعدنا بها لا تنتهي إلى نتيجة، ولكن قبيل أيام، في 14/ 1/ 1437هـ، جاءت رسالة إلى أم أوس في (الوثاب) whatsup هذا نصها وما كان من حوار:
-السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أنت دكتورة وسمية المنصور؟
-وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. نعم.
-معاك أم معتز من السودان ومقيمة في الرياض. طلبت إحدى الأخوات التواصل معك. اسمها عفاف بابكر.
-للأسف ما أعرفها أو لسوء الحظ لا أذكرها. هل لديك استفسار أستطيع الإجابة عنه. تفضلي.
-قالت منذ فترة طويلة قابلتيها وكنت تبحثين عن أستاذ اسمه عبدالقادر محمد محمود. ضيعَت الرقم وكنت في ذهنها إلى أن وجدَت الرقم الآن. هي حاليًّا بالسودان. وتود أن تعرف هل عثرتم على هذا الأستاذ؟
-جزاك وإياها كل خير. للأسف لم نعثر على من يدلنا على الأستاذ. ونعم الوفاء في أهل السودان، الوفاء والصدق والالتزام. بوركتم.
-آمين وجزاك بمثله دكتورة. هل تذكرتها؟ وهل تذكرين اسم بلده؟ وأي مادة كان يدرس؟
-الاسم مختلف. اسم الأستاذ عبدالقادر محمد محمد علي. يدرس اللغة العربية.
-تمام سأخبرها، وجزاكم الله ووالديكم الجنة. وادعوا له إن حيا أو ميتا.
-أنا في الحرم المكي ودعوت لكم ولها وله. سبحان الله تأتي رسالتك وقت دخولي الحرم.
-يا سلاااام. جزاك الله خيرا وربنا يتقبل عمرتكم ودعاءكم يا رب العالمين. أعتذر شغلتك.
وفي اتصال آخر:
-مساء الخيرات دكتورة. معليش الأستاذ دا كان في الرياض؟ وقبل كم سنة تقريبا؟
-تحيتي من الحرم والأذان يرفع سبحان الله لكم من دعائي نصيب في ساعة استجابة بإذن الله. الأستاذ عبدالقادر كان في مدينة المذنب بالقصيم وقبل عودته للسودان عمل في مدينة الجبيل وعندما عاد للخرطوم في السبعينيات عمل معلمًا في متوسطة للبنات في الخرطوم.
-السلام عليكم دكتورة. يا سلاااام أحمد الله الذي جمعني بك وأدخلني في دعائك وأسأل الله أن يتقبل عمرتكم ودعاءكم وكل طاعاتكم يا رب العالمين. ادعي للأخت عفاف التي قابلتك وكلفتني بهذه المهمة. يا دكتورة الكلام دا قديم شديد أنا كنت فاكراه قريب. دا رجع قبل 48 سنة الله أعلم يكون عايش.. الله يرحمه ويجزيه خيرا إن كان حيا وإن كان ميتا.
-آمين. ثقي دعوت للجميع.
-ربنا يتقبل. سوف نستمر في السؤال عنه بإذن الله فقد يجمع الله بينكم.
وفي اتصال آخر:
-معليش دكتورة ما عندكم أي فكرة عن اسم بلده في السودان. وما عندكم له صورة؟
-للأسف لا.
-حنلقاه بإذن الله.. أنا متفائلة.
- بلده الأصلية خشم القربة، زوجته ملكة، وله أخ اسمه الطاهر.
-الله أكبر. كدا تماااام.
وفي اتصال آخر:
-السلام عليكم ورحمة الله وبركاته دكتورة وصباح الخيرات.
-كيف حالكم عساكم بخير.
-سعيت في الموضوع بمساعدة إخوة وأخوات في السودان وتمنيت أن نجده ليفرح بكم وبوفائكم والحمد لله رب العالمين عثرنا على أسرته أما هو فقد توفي قبل 5 أشهر.. أسأل الله أن يرحمه بواسع رحمته. وطلبت صورة منه ومن جواز سفره للتأكيد.
هكذا انتهت رحلة البحث عن أستاذي العزيز الذي ولد في عطبرة في 1938م وتوفي في 27/4/ 2015م.
لما حانت فرصة الوفاء حالت دونه الوفاة.
** ** **
(1) وهي قصص خيالية يبدأ سردها بالقول «سبحان الله المعتلي مكانه، يقولون...».
- الرياض