« ونهجو ذا الزمانَ بغيرِ ذنبِ
ولو نطقَ الزمانُ بنا هجانا
وليس الذئبُ يأكلُ لحمَ ذئبٍ
ويأكلُ بعضُنا بعضاً عيانا»*
ليس بغريبٍ أن يتحولَ الإنسانُ الفردُ إلى ذئبٍ يقتلُ ويأكلُ إخوته، وأن يتجرد من فطرته وملته وأمته ومذهبه، لكن الغريب الذي ما عاد غريباً، حين أصبح شائعاً اليوم، أن تأكل الأوطانُ أبناءها، وأن تذلّ أهلها وتغرّبهم، كما نرى على الخريطة لبلدانٍ كانت تثور على الغريب المستعمر، ذات البلدان تقف مع الغريب والمستعمر الذي أذهلها ببريق ماله وسطوته، وربما حذائهِ!
والذال في البذل السامي وذلك عندما يبذل الإنسان دمه وروحه في سبيل الله.. في سبيل قضيةٍ عادلةٍ، ووطن حرٍّ، أو قد يبذل ماله، أو يبذل وُسعَه، أو ما في وسعِه، أو هو قد يبذلُ ابتسامةً في وجه إنسانٍ فتكون صدقة.
هذه الأنواع من البذل لم يعرفها الذين باعوا أوطانهم وأهلهم بثمنٍ بخس.. لأنهم ما عرفوا غير الذل، فما بذلوا غير ماء وجوههم!
وهناك بذلٌ آخر اتقاءَ شرٍّ أو داءٍ كبذل المتنبي:
بذلتُ لها المطارفَ والحشايا
فعافتها وباتتْ في عظامي
كما هي حالتي اليوم، وأنا أذود عن جسدي الذابلِ الحمّى، لألتذّ بقهوتي، وأنجز هذه الكتابة، وأذيّلها إن اكتملت باسمي.
ومن مراتب البذل الأعلى والأسمى بذل العلم والمعرفة للناس، وتثقيفهم وتنويرهم، وفتح أبواب ونوافذ العلمِ واللغةِ لهم، ومن ذلك هذا البذل منقطع النظير لابن منظور، أسوقه كما وجدته لعل في لسان العرب ما يخدم العرب في غربتهم، ويقرب هذا الحرف لذائقتهم:
« الذال حرفٌ من الحروف المجهورة والحروف اللثوية؛ والثاءُ المثلثة والذال المعجمة والظاء المعجمة في حيز واحد.
تفسير ذاك وذلك: التهذيب: قال أَبو الهيثم إِذا بَعُدَ المُشارُ إِليه من المُخاطَب وكان المُخاطِبُ بَعِيداً ممن يُشِيرُ إِليه زادوا كافاً فقالوا ذاك أَخُوك، وهذه الكاف ليست في موضع خفض ولا نصب، إِنما أَشبهت كافَ قولك أَخاك وعصاك فتوهم السامعون أَن قول القائل ذاك أَخوك كأَنها في موضع خفض لإِشْباهِها كافَ أَخاك، وليس ذلك كذلك، إِنما تلك كاف ضُمت إِلى ذا لبُعْد ذا من المخاطب، فلما دخل فيها هذا اللبس زادوا فيها لاماً فقالوا ذلك أَخُوك، وفي الجماعة أُولئك إِخْوَتُك، فإِن اللام إِذا دخلت ذهبت بمعنى الإِضافة، ويقال: هذا أَخُوك وهذا أَخٌ لك وهذا لك أَخٌ، فإِذا أَدخلت اللام فلا إِضافة. قال أَبو الهيثم: وقد أَعلمتك أَنَّ الرفع والنصب والخفض في قوله ذا سواء، تقول: مررت بذا ورأَيت ذا وقام ذا، فلا يكون فيها علامة رفع الإِعراب ولا خفضه ولا نصبه لأَنه غير متمكن، فلما ثنَّوا زادوا في التثنية نوناً وأَبْقَوُا الأَلف فقالوا ذانِ أَخَواك وذانِك أَخَواك؛ قال الله تعالى: فذانِكَ بُرْهانانِ من رَبِّكَ؛ ومن العرب من يشدِّد هذه النون فيقول ذانِّكَ أَخَواكَ، قال: وهم الذين يزيدون اللام في ذلك فيقولون ذلك، فجعلوا هذه التشديدة بدل اللام؛ وأَنشد المبرد في باب ذا الذي قد مر آنِفاً:
أَمِنْ زَيْنَبَ ذي النارُ
قُبَيْلَ الصُّبْحِ ما تَخْبُو
إِذا ما خَمَدَتْ يُلقى
عَلَيها، المَنْدَلُ الرَّطْبُ
قال أَبو العباس: ذي معناه ذِهْ. يقال: ذا عَبْدُ الله وذي أَمَةُ اللهِ وذِهْ أَمَةُ اللهِ وتِهْ أَمَةُ الله وتا أَمَة اللهِ، قال: ويقال هَذي هِنْدُ وهاتِه هِندُ وهاتا هِندُ، على زيادة ها التَّنْبيه، قال: وإِذا صَغَّرْت ذِه قلت تَيّا تَصْغِيرَ تِه أَو تا، ولا تُصَغَّر ذه على لفظها لأَنك إِذا صغرت ذا قلت ذَيّا، ولو صغرت ذِه لقلت ذَيَّا فالتبس بالمذكر، فصغروا ما يخالف فيه المؤنث المذكر، قال: والمُبْهَماتُ يُخالِف تَصْغِيرُها تَصْغيرَ سائر الأَسماء. وقال الأَخفش في قوله تعالى: فَذانِك بُرْهانانِ من ربك؛ قال: وقرأَ بعضهم فذانِّكَ برهانان، قال: وهم الذين قالوا ذلك أَدخلوا التثقيل للتأْكيد كما أَدخلوا اللام في ذلك، وقال الفراء: شدَّدوا هذه النون ليُفْرَقَ بينها وبين النون التي تسقط للإِضافة لأَن هَذانِ وهاتانِ لا تضافان؛ وقال الكسائي: هي من لغة من قال هذا آ قال ذلك، فزادوا على الأَلف أَلفاً كما زادوا على النون نوناً ليُفْصَل بينهما وبين الأَسماء المتمكنة؛ وقال الفراء: اجتمع القُراء على تخفيف النون من ذانِكَ وكثيرٌ من العرب فيقول فذانِك قائمانِ وهذانِ قائمانِ واللذان قالا ذلك، وقال أَبو إِسحق: فذانك تثنية ذاك وذانِّك تثنية ذلك، يكون بدلَ اللامِ في ذلك تشديدُ النون في ذانِّك. وقال أَبو إِسحق: الاسم من ذلك ذا والكاف زِيدَت للمخاطبة فلا حَظَّ لها في الإِعراب. قال سيبويه: لو كان لها حظ في الإِعراب لقلت ذلك نَفْسِكَ زيد، وهذا خَطَأٌ. ولا يجوز إِلاَّ ذلكَ نَفْسُه زيد، وكذلك ذانك يشهد أَن الكاف لا موضع لها ولو كان لها موضع لكان جرّاً بالإِضافة، والنون لا تدخل مع ال إِضافة واللامُ زِيدَتْ مع ذلك للتوكيد، تقول: ذلِك الحَقُّ وهَذاكَ الحَقُّ، ويقبح هذالِكَ الحَقُّ لأَن اللام قد أَكَّدَت مع الإِشارة وكُسِرت لالتقاء الساكنين، أَعني الأَلف من ذا، واللام التي بعدها كان ينبغي أَن تكون اللام ساكنة ولكنها كُسِرَت لِما قُلنا، والله أَعلم».
بحثٌ لذيذٌ.. أليس كذلك؟!
وهل بعد لذة بذل العلوم والمعارف وتحصيلها لذة؟!
** ** **
* الإمام الشافعي
- الرياض
mjharbi@hotmail.com